وأمّا ثانيا : فلأنّ النظر إلى الواقع في الأمارات لا يوجب أن يكون المخبر بالواقع مخبرا عن اللوازم البعيدة له بحيث لا يكون تصوّر المخبر به مستلزما لتصوّرها ، (وقياسه على العلم الوجداني مع الفارق ، فإنّ العلم الوجداني بالملزوم مع العلم بالملازمة يولد العلم باللازم ، فيكون هذا العلم المتولّد حجّة ؛ لكونه علما وجدانيّا ، بخلاف الأمارات إذ المفروض أنّ العلم الوجداني باللوازم مفقود ، وكذا العلم التعبّدي ، إذ المفروض أنّها إنّما أخبرت بالملزوم فقط) (١).
وكيف كان ، فالظاهر أنّه لا فرق بين الاصول والأمارات في أنّه يتبع دليل حجّيتها ، فإن دلّ على التعبّد بمؤدّياتها فقط فلا يتعدّى كما في الاصول ، وإن دلّ على التعبّد بمؤدّياتها بمالها من اللوازم فيثبت حينئذ التعبّد بالجميع ، لكنّ الأدلّة الّتي جعلت الاصول لا تدلّ على أزيد من التعبّد بمؤدّاها ، ففي الاستصحاب لا تدلّ على أزيد من التعبّد بخصوص المتيقّن ، وفي الأمارات يختلف الحكم باختلاف لسان جعل الأمارة ، ففي خبر الواحد مثلا دليل الجعل السيرة ، وهي متحقّقة بالنسبة إلى المؤدّى ولوازمه القريبة والبعيدة ولو بوسائط عديدة ، وكذلك في الإقرار وغيره ممّا كان العرف يفهمون من الإخبار بالشيء الإخبار بلازمه ، مثلا لو أقرّ شخص بأنّه هو سقى زيدا السمّ وأنكر كونه قاتلا له لا يعتنى بإنكاره ؛ لأنّ إقراره باللازم إقرار بالملزوم.
وبالجملة ، فالفرق بين الاصول والأمارات ليس في مقام الثبوت وإنّما هو في مقام الإثبات ، فمن يقول بأنّ لوازم الأمارات تتبع دليل الأمارة قوله هو الصحيح ولا ينبغي أن يستغرب منه ، بل هو الّذي ينبغي أن يعتمد عليه ، فافهم وتأمّل.
بقي أمران لا بدّ من التعرّض لهما :
أحدهما : هو أنّه بعد ما عرفت أنّ المانع من حجّية الأصل المثبت إنّما هو مانع إثباتي وهو عدم وفاء الدليل ، لا ثبوتي بين مؤدّى نفس الأصل والأمارة ، فلو قلنا
__________________
(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.