وكان الفرّاء قوىّ الحفظ ، لا يكتب ما يتلقاه عن الشيوخ استغناء بحفظه. ويقول هنّاد بن السرىّ (١) : «كان الفرّاء يطوّف معنا على الشيوخ ، فما رأيناه أثبت سوداء فى بيضاء قط ، لكنه إذا مرّ له حديث فيه شىء من التفسير أو متعلّق بشىء من اللغة قال للشيخ : أعده علىّ. وظننّا أنه كان يحفظ ما يحتاج إليه».
وبقيت له قوّة الحفظ طوال حياته ، وكان يملى كتبه من غير نسخة ، ولم يقتن كتبا كثيرة. ويقول ثعلب : «لما مات الفرّاء لم يوجد له إلا رءوس أسفاط فيها مسائل تذكرة وأبيات شعر». والأسفاط جمع السّفط وهو ما يوضع فيه الطّيب وغيره ، وهو المعروف بالسّبت.
وقد بلغ الفرّاء فى العلم المكانة السامية والغاية التي لا بعدها ، وكان زعيم الكوفيين بعد الكسائي. ويقول ثعلب : «لو لا الفرّاء لما كانت عربيّة ؛ لأنه خلّصها وضبطها. ولو لا الفرّاء لسقطت العربيّة ؛ لأنها كانت تتنازع ويدّعيها كلّ من أراد ، ويتكلم الناس فيها على مقادير عقولهم وقرائحهم فتذهب».
وفى تاريخ بغداد : «وكان يقال : النحو الفرّاء ، والفرّاء أمير المؤمنين فى النحو».
ويبين عن مبلغه فى العلم قصة ثمامة بن الأشرس المعتزلي ، فقد كان الفرّاء يتردّد على باب المأمون حتى لقيه ثمامة ، وهنا يقول هذا الرجل عن الفرّاء (٢) : «فرأيت أبّهة أديب ، فجلست إليه ففاتشته عن اللغة فوجدته بحرا ، وفاتشته عن النحو فشاهدته نسيج وحده ، وعن الفقه فوجدته رجلا فقيها عارفا باختلاف القوم ، وبالنحو ماهرا ، وبالطب خبيرا ، وبأيام العرب وأشعارها حاذقا. فقلت :
__________________
(١) تاريخ بغداد ١٤ / ١٥٢.
(٢) ابن خلكان ٥ : ٢٢٥ (طبعة مكتبة النهضة ١٩٤٩).