فتبين : أن حال المعاني الحرفية والمفاهيم الأدوية في عالم المفهوم ، حال المقولات التسع العرضية في عالم العين. إذا عرفت ذلك فنقول : قد اتضح من ضوء هذا البيان أن المفاهيم الاسمية ، حيث انها كانت إخطارية ومتقررة ومستقلة في عالم المفهوم والمعنى ، فيستحيل أن تكون الأسماء موجدة إياها في الكلام ، ضرورة عدم إمكان كونها إيجادية بهذا المعنى ؛ لما عرفت من أن معانيها تخطر في الذهن عند التكلم بها ، سواء كانت مفردة أم كانت في ضمن تركيب كلامي ؛ ولكن لما لم تكن بينها رابطة ذاتية توجب ربط بعضها ببعض ، دعت الحاجة في مقام الإفادة والاستفادة إلى روابط تربط بعضها ببعضها الآخر ، وليست تلك الروابط إلا الحروف وتوابعها ، فان شأنها إيجاد الربط بين مفهومين مستقلين ، ولذا قلنا ان معانيها إيجادية محضة نسبية كانت كحرف (من وعلى وإلى) ، ونحوها أو غير نسبية كحرف النداء والتشبيه والتمني والترجي ، فانها في كلا القسمين موضوعة لإيجاد المعنى الربطي بين المفاهيم الاسمية في التراكيب الكلامية ـ مثلا ـ كلمة (في) موضوعة لإيجاد معنى ربطي بين الظرف والمظروف. وكلمة (على) موضوعة لإيجاد معنى ربطي بين المستعلى والمستعلى عليه. وكلمة (من) لإيجاده بين المبتدأ به والمبتدأ منه.
وبعبارة جامعة : أن كل واحد منها موضوع لإيجاد معنى ربطي خاص في تركيب مخصوص ، ولا واقع له سواه ، فلو لا وضع الحروف لم توجد رابطة بين اجزاء الكلام أبداً ، بداهة أنه لا رابطة بين مفهوم زيد ومفهوم الدار في أنفسهما ، لأنهما مفهومان متباينان بالذات ، فلا بد من رابط يربط أحدهما بالآخر وليس ذلك إلا كلمة (في) ـ مثلا ـ التي هي الرابطة بينهما ، كما أن كلمة (من) رابطة بين المبتدأ به والمبتدأ منه وكلمة (على) رابطة بين المستعلى والمستعلى عليه ، وهكذا.
وعلى الجملة أن المعاني الحرفية بأجمعها معان إيجادية ، وليس لها واقع في أي وعاء من الذهن والخارج وعالم الاعتبار ما عدا التراكيب الكلامية ؛ ونظيرها صيغ العقود والإيقاعات بناء على ما ذهب إليه المشهور فيها من أنها آلات وأسباب