ثم لا يخفى عليك (١) : أن التكليف ما لم يبلغ مرتبة البعث والزجر لم يصر فعليا ، وما لم يصر فعليا لم يكد يبلغ مرتبة التنجز ، واستحقاق العقوبة على المخالفة وإن كان
______________________________________________________
(١) إشارة إلى تفصيل ما أفاده إجمالا من أن أحكام القطع مترتبة على القطع بمرتبة فعلية الحكم.
وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن للحكم مراتب أربع : الأولى : الاقتضاء ، الثانية : الإنشاء ، الثالثة : الفعلية ، الرابعة : التنجز. وهذه المراتب طولية لا عرضية بمعنى : أنه ما لم تتحقق المرتبة السابقة لا يعقل تحقيق المرتبة اللاحقة.
فما لم تتحقق مرتبة الاقتضاء ـ وهي شأنية الحكم للوجود لأجل ملاك الحكم في متعلقه وهي عبارة عن مصلحة أو مفسدة ـ لا يعقل وصوله إلى المرتبة الثانية ـ وهي مرتبة الإنشاء ـ وهي جعل الحكم مجردا عن البعث والزجر ، بمعنى : أن المولى بعد ملاحظة المصلحة ينشئ الوجوب وبعد ملاحظة المفسدة ينشئ الحرمة قانونا ، فالحكم حينئذ موجود إنشاء وقانونا من دون بعث للمولى أو زجر فعلا كأكثر أحكام الشرع مما لم يؤمر الرسول «صلىاللهعليهوآلهوسلم» بتبليغه ؛ لعدم استعداد المكلفين لها. فهذه المرتبة كالمرتبة السابقة لا تلازم الإرادة والكراهة.
المرتبة الثالثة : والمراد بهذه المرتبة : بعث المولى وزجره نحو الحكم بأن يقول : «افعل» أو «لا تفعل» مع عدم وصوله إلى المكلف بحجة معتبرة من علم أو علمي ، فلا تكون مخالفته حينئذ موجبة للعقاب والذّم.
المرتبة الرابعة : ـ وهي مرتبة التنجز ـ المراد بها : وصول الحكم الفعلي إلى المكلف بالحجة الذاتية أو المجعولة ، وعلمه بالمرتبة الثالثة ، ويكون في موافقته ثواب وفي مخالفته عقاب.
إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن ما تقدم آنفا من كون القطع منجّزا للتكليف في صورة الإصابة إنما فيما إذا كان التكليف الذي تعلق به القطع فعليا لا إنشائيا محضا.
وحاصل الكلام في المقام : أن وجوب العمل بالقطع عقلا ، وقضاء الضرورة والوجدان باستحقاق العقوبة على مخالفته والمثوبة على موافقته إنما هو فيما إذا تعلق القطع بالمرتبة الثالثة وهي البعث والزجر ؛ ليكون الحكم منجّزا بسبب وصوله إلى العبد بالقطع به ، فلو لم يتعلق القطع بهذه المرتبة ، بل تعلق بما قبلها من الاقتضاء والإنشاء لم يكن هذا القطع موضوعا للحجيّة في نظر العقل ؛ لعدم صدق الإطاعة والعصيان على موافقته ومخالفته.