وربما استدل بما قيل : من استقلال (١) العقل بالحظر في الأفعال غير الضرورية قبل
______________________________________________________
(١) هذا إشارة إلى الوجه الثاني من الوجهين من الدليل العقلي على وجوب الاحتياط.
والفرق بين هذا الوجه والوجه المتقدم إنما هو لوجهين :
أحدهما : أن حكم العقل بوجوب الاحتياط على الوجه الأول كان بملاك وجوب دفع الضرر المحتمل ، مع ملاحظة العلم الإجمالي بالتكاليف ، بخلاف حكمه به على هذا الوجه ، فإنه يكون إما بملاك قبح التصرف في مال الغير بدون إذنه ـ بناء على الحظر ـ أو بملاك وجوب دفع الضرر المحتمل بناء على الوقف ، فلا يكون حكمه به بلحاظ العلم الإجمالي بالتكاليف.
وثانيهما : أن الوجه المتقدم جار في كل شبهة بمقتضى تعميم متعلق العلم الإجمالي للشبهة الوجوبية والتحريمية ، بخلاف هذا الوجه فإنه مختص بالشبهة التحريمية.
وقبل توضيح الاستدلال بحكم العقل على هذا الوجه الثاني لا بأس بالإشارة إلى نزاع الحظر والإباحة في الأشياء ؛ لأن صحة الاستدلال بهذا الوجه على وجوب الاحتياط يتوقف على القول بالحظر في مسألة حكم العقل في الأشياء قبل الشرع فنقول : إنهم اختلفوا في حكم العقل بالجواز وعدمه فيما لا يستقل العقل بحسنه وقبحه من الأفعال غير الضرورية على أقوال ثلاثة :
الأول : أن الأصل في الأشياء التي لا يدرك العقل حسنها ولا قبحها ولا مضطر إليها هو الحظر أي : المنع ، وأن العقل يحكم بعدم جوازها ما لم يرد رخصة من الشارع فيها ، ويعبر عنه بأصالة الحظر ، وذهب إليه طائفة من الإمامية ، ووافقهم عليه جماعة من الفقهاء ، ونظرهم في ذلك إلى أن الأشياء كلها مملوكة لله تعالى ، فلا يجوز التصرف فيها بدون إذنه ؛ لعدم جواز التصرف في ملك الغير إلا بإذنه.
الثاني : أن الأصل فيها الإباحة ، وأن العقل يحكم بجوازها ما لم يصل من الشارع منع عنها ، ويعبر عنه بأصالة الإباحة ، وذهب إليه كثير من متكلمي البصريين وكثير من الفقهاء ، واختاره السيد المرتضى «قدسسره» ، ونظرهم في ذلك إلى أن كل ما يصح الانتفاع به ولا ضرر فيه عاجلا أو آجلا على أحد فهو حسن ؛ إذ ليس الضرر إلا مفسدة دينية أو دنيوية ، فلو كان فيه ضرر لوجب على القديم تعالى إعلامنا به ، وحيث لم يعلمنا به ـ حسب الفرض ـ علمنا إنه ليس فيه ضرر فهو حسن ، وحيث كان حسنا كان مباحا وهو المطلوب.
الثالث : أن الأصل فيها الوقف بمعنى : أنه لا حكم للعقل فيها لا بالحظر ولا بالإباحة