ثم إنه (١) لا يجوز الاكتفاء بالظن فيما يجب معرفته عقلا أو شرعا ، حيث إنه ليس بمعرفة قطعا ، فلا بد من تحصيل العلم لو أمكن ، ومع العجز عنه : كان معذورا إن كان عن قصور لغفلة أو لغموضة المطلب ، مع قلة الاستعداد كما هو المشاهد في كثير من النساء بل الرجال ، بخلاف ما إذا كان عن تقصير في الاجتهاد ، ولو لأجل حب طريقة الآباء والأجداد ، واتباع سيرة السلف ، فإنه كالجبلي للخلف ، وقلّما عنه تخلف.
والمراد من المجاهدة في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا)(*) هو المجاهدة مع النفس ؛ بتخليتها عن الرذائل وتحليتها بالفضائل ، وهي التي كانت أكبر
______________________________________________________
(١) الضمير للشأن غرضه بيان قيام الظن مقام العلم بعد الفراغ مما يجب تحصيل المعرفة به عقلا أو شرعا وعدم قيامه مقامه ، ومرجعية البراءة في موارد الشك.
وتوضيح ما أفاده : أنه قد استدل على كفاية الظن في أصول الدين بوجوه :
الأول : أن الظن معرفة مطلقا ، سواء في حال الانفتاح أم الانسداد ؛ بحيث تصدق المعرفة عليه كصدقها على العلم ، فيكتفى بالظن في الأصول حتى في حال انفتاح باب العلم بها. وفيه ما أشار إليه المصنف بقوله : «حيث إنه ليس بمعرفته قطعا». وحاصله : أن الظن ليس مصداقا للمعرفة الواجبة في بعض الأصول الاعتقادية ؛ إذ المعرفة عرفا هي العلم ولا تصدق على غيره ، فمع التمكن من تحصيل العلم يجب تحصيله ، ولا يجوز الاكتفاء بالظن. ومع عدم التمكن منه : يكون معذورا إن كان العجز عن تحصيل العلم مستند إلى القصور الناشئ عن عدم المقتضي ؛ كقلة الاستعداد وغموض المطلب ، أو وجود المانع كغفلته وعدم التفاته.
وإن كان العجز عنه مستندا إلى التقصير في الاجتهاد ؛ ولو لأجل حب طريقة الآباء : فإن هذا الحب ربما يوهم كون تلك الطريقة حقا ، فيورث الخطأ في الاجتهاد ، فهو غير معذور ؛ بل مقصر لأجل الحب المزبور الملقى له في الخطأ.
قوله : «كما هو المشاهد ...» الخ. إشارة إلى دفع ما قيل : من عدم وجود القاصر استنادا إلى حصر المكلف في المؤمن والكافر ، وخلود الكافر في النار ، وإلى قوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا).
وأما دلالة حصر المكلف في المؤمن والكافر على نفي الجاهل القاصر : فيتوقف على مقدمة وهي : أن هناك ما دل على خلود الكافر في النار ، وهناك حكم العقل بقبح عقاب الجاهل القاصر.
__________________
(*) العنكبوت : ٦٩.