فقال زكريا أنا أحق بها لأن خالتها عندي فقالوا لا حتى نقترع فانطلقوا وهم تسعة وعشرون إلى نهر الأردن وألقوا أقلامهم على أن من ثبت قلمه في الماء وصعد فهو أولى بها فثبت قلم زكريا فأخذها وبنى لها غرفة في المسجد بسلم لا يصعد إليها غيره وكان يأتيها بأكلها وشربها ودهنها فيجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف ، كما قال تعالى (وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا) ضمها إليه وفي قراءة بالتشديد ونصب زكريا ممدودا أو مقصورا والفاعل الله (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ) الغرفة وهي أشرف المجالس (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى) من أين (لَكِ هذا قالَتْ) وهي صغيرة (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) يأتيني به من الجنة (إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٣٧) رزقا واسعا بلا تبعة (هُنالِكَ) أي لما رأى زكريا ذلك وعلم أن القادر على الإتيان بالشيء في غير حينه قادر على الإتيان بالولد على الكبر وكان أهل بيته انقرضوا (دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) لما دخل المحراب للصلاة جوف الليل (قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ) من عندك (ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً) ولدا
____________________________________
(لأن خالتها عندي) ورد أنهم قالوا لو كانت القرابة مقتضية لأخذها لكانت أمها أولى. قوله : (إلى نهر الأردن) أي وهو نهر يجري إلى الآن. قوله : (وألقوا أقلامهم) قيل سهامهم ، وقيل التي كانوا يكتبون بها التوراة ، وقيل اقلامهم من حديد. قوله : (وصعد) أي على وجه الماء ، أي من غرق قلمه أو ذهب مع الماء فلا حق له فيها. قوله : (بأكلها) بضم الهمزة فيه وفيما بعده بمعنى الشيء المأكول والمشروب والذي يدهن به. قوله (ممدودا أو مقصورا) راجع لقراءة التشديد لا غير ، وأما التخفيف فليس فيه إلا المد مع رفعه على الفاعلية. قوله : (والفاعل الله) أي بالنسبة للتشديد.
قوله : (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا) أي في وقت دخل عليها فيه وجد الخ ، وزكريا بالمد والقصر قراءتان سبعيتان. قوله : (الْمِحْرابَ) هو اسم لكل محل من محال العبادة فسميت الغرفة بذلك لأنها في المسجد وهو محل العبادة. قوله : (وَجَدَ عِنْدَها) حال من زكريا ، التقدير قائلا : (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ) حال كونه واجدا عندها رزقا يا مريم الخ ، ورزقا مفعول لقوله وجد ووجد بمعنى أصاب. قوله : (وهي صغيرة) أي فهي من جملة من تكلم في المهد. قوله : (بلا تبعة) أي حق عليه ، فليس اعطاؤه الرزق لحق العباد ، بل هو من محض فضله وجوده.
قوله : (هُنالِكَ) أصلها ظرف مكان لكن استعملت هنا ظرف زمان ، ويحتمل أن تكون ظرف مكان معنوي ، والمعنى عند تلك الواقعة دعا زكريا الخ وهو كلام مستأنف وقصة مستقلة سيقت في اثناء قصة مريم لما بينهما من قوة الارتباط ، لأن فضل بعض الأقارب يدل على فضل الآخر وهو حكمة قوله تعالى : (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ). قوله : (لما رأى ذلك زكريا) أي ما تقدم من قصة حنة حيث دعت الله أن يرزقها بولد مع يأسها وكبر سنها ، فأجابها الله مع كونها لم تكن نبية ، واعطاها مريم وجعلها افضل من الذكور ، وصار يأتيها رزقها من الجنة ، واكرمها اكراما عظيما ، فكان ذلك الأمر العجيب باعثا له على طلب الولد. قوله : (وعلم) أي تنبه واستحضر عند مشاهدة تلك الخوارق للعادة على حد : (ولكن ليطمئن قلبي) فشهود الكرامات تزيد في اليقين والكامل يقبل الكمال. قوله : (على الكبر) أي منه ومن زوجته ، قيل كان وقت الدعاء عمره ثمانون سنة ، وعمرها ثمان وخمسون ، وبين الدعاء والإجابة أربعون سنة. قوله : (وكان أهل بيته) أي أقاربه. قوله : (لما دخل المحراب) أي المسجد.