ثانيا (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) بدل من الضمير (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) (٧١) فيجازيهم به (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) سبق مثله (وَقالَ) لهم (الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) فإني عبد ولست بإله (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) في العبادة غيره (فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) منعه أن يدخلها (وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ) زائدة (أَنْصارٍ) (٧٢) يمنعونهم من عذاب الله (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ) آلهة (ثَلاثَةٍ) أي أحدها والآخران عيسى وأمه وهم فرقة من النصارى (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ) من التثليث ويوحدوا (لَيَمَسَّنَ
____________________________________
جمعهم وأسرهم ، وخرب بيت المقدس ، وصاروا في غاية الذل والهوان ، فلما تابوا توجه ملك من ملوك فارس ، فعمر بيت المقدس ، وقتل بختنصر ، وردهم إلى وطنهم ، فكثروا وكانوا أحسن ما كانوا عليه ، فمكثوا ثلاثين سنة ثم عموا وصموا ثانيا وقتلوا زكريا ويحيى ، وإلى هذه القصة الإشارة بقوله تعالى في سورة الإسراء (لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ) الآيات ، وهذا هو الصحيح ، فالمراد ببني إسرائيل من كان في زمن شعياء وأرمياء ، لا من كان في زمن موسى وهارون قوله : (بدل من الضمير) أي قوله : (عَمُوا وَصَمُّوا) والضمير هو الفاعل ، وهذا هو هروب من تخريج الآية على لغة أكلوني البراغيث فإنها ضعيفة ، ودفع بقوله (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) ما يتوهم أنهم عموا وصموا جميعهم وعطف قوله (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا) بثم المفيدة للتراخي ، لأن بين التوبة والعمى ثلاثين سنة.
قوله : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا) وهم اليعقوبية من النصارى ، وهو شروع في ذكر قبائح النصارى بعد ذكر قبائح اليهود. قوله : (إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ) معنى ذلك عندهم أن الله حل في ذات عيسى واتحد بها. قوله : (وَقالَ الْمَسِيحُ) الجملة حالية من الواو في قالوا ، وهو رد لما ادعوه من ألوهيته ، أي فلا عذر لهم في تلك الدعوة ، فإن تبرأ منها وبين لهم طريق الهدى.
قوله : (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) كالعلة لقوله : (اعْبُدُوا اللهَ). قوله : (منعه أن يدخلها) أي فالمراد بالتحريم مطلق المنع. قوله : (وَما لِلظَّالِمِينَ) أي المشركين. قوله : (أَنْصارٍ) أي أعوان يحفظونهم من غضب الله. قوله : (والآخران عيسى الخ) هذا وجه في التثليث عندهم ، وهناك وجه آخر عندهم وهو أن الإله مركب من ثلاثة : الأب والابن وروح القدس ، فمرادهم بالأب ذات الله ، وبالابن صفة الكلام ، وبروح القدس الحياة ، فاختلطت صفة الكلام بجسد عيسى كاختلاط الماء باللبن ، وزعموا أن الأب إله ، والابن إله ، والروح إله ، والكل إله واحد. واعلم أن النصارى في اعتقاد التثليث على أربع فرق ، واحدة تقول : كل من ذات الله تعالى وذات عيسى وذات مريم إله ، وأخرى تقول : الإله مجموع صفات ثلاث : الوجود والعلم والحياة وعيسى ابنه ، وأخرى تقول : الإله مجموع ذات وصفتين ، ذات الله ويسمونها الأب وصفة كلامه ويسمونها الابن وصفة الحياة ويسمونها روح القدس ، والكل إله واحد ، وأخرى تقول : الإله مجموع ذاتين وصفة الله وذات عيسى والحياة الحالة في جسد عيسى. قوله : (وهم فرقة من النصارى) أي وهم النسطورية والمرقوسية.
قوله : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) الواو إما حالية أو استئنافية ، وما نافية ، ومن زائدة لاستغراق النفي ، وإله مبتدأ والخبر محذوف تقديره كائن في الوجود ، وإلا ملغاة ، وإله بدل من الضمير في الخبر نظير لا إله إلا الله ، والمقصود من ذلك التشنيع والرد عليهم في دعواهم التثليث ، لأن حقيقة الإله هو المستغني