(وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) بين الخلائق (بِالْقِسْطِ) بالعدل (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٥٤) شيئا (أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بالبعث والجزاء (حَقٌ) ثابت (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ) أي الناس (لا يَعْلَمُونَ) (٥٥) ذلك (هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٥٦) في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم (يا أَيُّهَا النَّاسُ) أي أهل مكة (قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) كتاب فيه ما لكم وعليكم وهو القرآن (وَشِفاءٌ) دواء (لِما فِي الصُّدُورِ) من العقائد الفاسدة والشكوك (وَهُدىً) من الضلال (وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٥٧) به (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ) الإسلام (وَبِرَحْمَتِهِ) القرآن (فَبِذلِكَ) الفضل
____________________________________
بالجنة ، وللكفار بالنار ، ويصح أن يكون المعنى بين الظالمين والمظلومين. قوله : (العدل) أي وهو عدم الجور والظلم. قوله : (أَلا) أداة تنبيه ، يؤتى بها للاعتناء بما بعدها ، ومناسبة هذه الآية لما قبلها ، أنه لما ذكر أن كل نفس كافرة ، تتمنى أنها لو تملك ما في الأرض لافتدت به ، بين هنا أنه لا يملك ذلك لعدم ملكها ، فإن لله ما في السموات والأرض. قوله : (أَلا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي لا محيص عنه ، بل هو واقع ولا بد.
قوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي لقصور عقولهم بسبب استيلاء الغفلة عليهم فينكرون ذلك ، والتعبير بأكثر ، إشارة إلى أن الأقل يعلم ذلك ، وهو واحد من ألف ، لما تقدم في الحديث : «يا آدم أخرج بعث النار من ذريتك ، فيخرج من كل ألف واحدا للجنة والباقي للنار». قوله : (فيجازيكم بأعمالكم) أي خيرها وشرها. قوله : (أي أهل مكة) أشار بذلك إلى أن الخطاب لهم ، ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. قوله : (مَوْعِظَةٌ) مصدر وعظ بمعنى ذكر وأرشد لما ينفع من محاسن الأعمال ، وزجر عما يضر من قبائحها.
قوله : (مِنْ رَبِّكُمْ) صفة لموعظة ، وفي هذا تنزل من الله لعباده ، كأن الله يقول : الفداء في الآخرة لا ينفع ، وأما في الدنيا فذلك نافع. قوله : (وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ) المراد بها القلوب ، من باب تسمية الحال باسم المحل ، والمعنى أن القرآن مذكر وواعظ ، وبه الشفاء لما في القلوب من الحقد والحسد والبغض والعقائد الفاسدة. قوله : (وَهُدىً) أي نور يقذف في قلوب الكاملين ، يميزون به الحق والباطل ، وفي هذه الآية إشارة إلى الشريعة والطريقة والحقيقة ، فأشار للشريعة بقوله : (مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) لأن الشريعة بها تطهير الظواهر ، وأشار للطريقة بقوله : (وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ) لأن الطريقة بها تطهير البواطن عن كل ما لا ينبغي ، وأشار للحقيقة بقوله : (وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) لأن بالحقيقة التجلي بالأنوار الساطعة في القلوب التي يرى بها الأشياء على ما هي عليه فعند ذلك يرى الله في كل شيء ، وأقرب إليه من كل شيء ، علما ذوقيا ، لا علما يقينيا ، فالحقيقة ثمرة الطريقة ولا تحصل إلا بعد التخلق بالطريقة والشريعة ، ولذا قيل : حقيقة بلا شريعة باطلة ، وشريعة بلا حقيقة عاطلة.
قوله : (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ) إلخ ، متعلق بمحذوف دل عليه ما بعده ، والأصل ليفرحوا ، (بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) ثم قدم الجار والمجرور على الفعل لإفادة الحصر ، ثم دخلت الفاء لإفادة السببية ، والمعنى أن من اتصف بهذه الصفات المتقدمة ، ينبغي له أن يفرح ويشكر ما أنعم الله به عليه ، ويجود بروحه وجسمه في خدمة ربه ولا يتوانى ، فمن قذف الله في قلبه نور محبته ، فالواجب عليه إفناء جسمه في خدمته ، كي يتم له ذلك النور ويزداد السرور ، وهذه المحبة هي التي يعبر عنها العارفون بالخمرة