حلوله (كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (٩٨) انقضاء آجالهم (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) بما لم يشأه الله منهم (حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (٩٩) لا (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) بإرادته (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ) العذاب
____________________________________
يكن بينهم وبينه إلا قدر ثلثي ميل ، فلما دعوا كشفه الله عنهم ، وقال قتادة : قدر ميل ، وقال سعيد بن جبير : غشى قوم يونس العذاب ، كما يغشى الثوب الغبر ، وقال وهب : غامت السماء غيما أسود هائلا ، يدخن دخانا شديدا ، فهبط حتى غشى مدينتهم واسودت أسطحتهم ، فلما رأوا العذاب أيقنوا بالهلاك ، فطلبوا نبيهم يونس فلم يجدوه ، فقذف الله في قلوبهم التوبة ، فخرجوا إلى الصحراء بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم ، ولبسوا المسوح ، وأظهروا الإيمان والتوبة ، وفرقوا بين كل والدة وولدها من الناس والدواب ، فحن البعض للبعض ، فحنت الأولاد إلى الأمهات ، والأمهات إلى الأولاد ، وعلت الأصوات ، ولجؤوا جميعا إلى الله تعالى ، وتضرعوا إليه وقالوا آمنا بما جاء به يونس ، وتابوا إلى الله وأخلصوا النية ، فرحمهم ربهم واستجاب دعاءهم ، وكشف ما نزل بهم من العذاب بعدما أظلهم ، وكان ذلك اليوم يوم عاشوراء ، وكان يوم الجمعة ، قال ابن مسعود : بلغ من توبتهم ، أنهم ردوا المظالم فيما بينهم ، حتى انه كان الرجل يأتي إلى الحجر ، وقد وضع عليه أساس بنائه فيقلعه فيرده ، وروى الطبراني بسنده قال : لما غشي قوم يونس العذاب ، مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا له : إنه قد نزل بنا العذاب فما ترى؟ قال : قولوا يا حي حين لا حي ، ويا حي يحيي الموتى ، ويا حي لا إله إلا أنت. فقالوها فكشف الله عنهم العذاب ، ومتعوا إلى حين ، وقال الفضيل بن عياض : إنهم قالوا : اللهم إن ذنبونا قد عظمت وجلت ، وأنت أعظم وأجل ، فافعل بنا ما أنت أهله ، ولا تفعل بنا ما نحن أهله ، فلما خرج يونس جعل ينتظر العذاب ، فلم ير شيئا ، فقيل له : ارجع إلى قومك ، قال : وكيف أرجع إليهم فيجدوني كذابا؟ وكان كل من كذب ولا بينة له قتل ، فانصرف عنهم مغاضبا فنزل في سفينة فلما بلغت وسط البحر وقفت ، وكان من عادتهم أن السفينة لا تقف إلا إذا كان فيها عبد أبق ، فضربوا القرعة فخرجت على يونس ، فألقوه في البحر فالتقمه الحوت ، فنادى في الظلمات : أن لا إله إلا أنت سبحانك ، إن كنت من الظالمين ، فاستجاب الله نداءه ، وأخرجه من بطن الحوت ضعيفا فأنبت الله عليه شجر القرع ، ورجع إلى قومه وكانوا يزيدون عن مائة الف ، ففرحوا به وأحبوه وآمنوا به ، فهنيئا لمن رجع إلى مولاه ، وندم على ما جناه فإن الله يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات. قوله : (انقضاء آجالهم) تفسير للحين ، ودفع بذلك ما قيل : إن قوم يونس من المنظرين لا يموتون إلا عند النفخة الأولى ، فأجاب المفسر : بأن معنى الحين انقضاء آجالهم.
قوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ) مفعول شاء محذوف ، أي إيمان جميع الناس. قوله : (كُلُّهُمْ) توكيد لمن ، و (جَمِيعاً) حال منها ، والمعنى لو أراد الله إيمان من في الأرض لآمنوا كلهم ، حال كونهم مجتمعين. قوله : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) الهمزة داخلة على محذوف ، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف والتقدير أتحزن على عدم إيمانهم وتتأسف عليه ، أفأنت تكره إلخ. قوله : (لا) أي لست بمكره للناس على الإيمان ، والمعنى ليس عليك إلا البلاغ ، لا خلق الإيمان في قلوبهم وإكراههم عليه ، فإن الأمر لله لا خالق سواه.
قوله : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ) ، إلخ ، بيان وتعليل لما قبله ، والمعنى ما ثبت لنفس من الأنفس