يمنعني (مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) عذابه (إِلَّا) لكن (مَنْ رَحِمَ) الله فهو المعصوم قال تعالى : (وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) (٤٣) (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ) الذي نبع منك فشربته دون ما نزل من السماء فصار أنهارا وبحارا (وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) أمسكي عن المطر فأمسكت (وَغِيضَ) نقص (الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ) تم أمر هلاك قوم نوح (وَاسْتَوَتْ) وقفت السفينة (عَلَى الْجُودِيِ) جبل بالجزيرة بقرب الموصل (وَقِيلَ بُعْداً) هلاكا (لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٤٤)
____________________________________
(ارْكَبْ مَعَنا) بإظهار الياء وإدغامها في الميم سبعيتان.
قوله : (وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ) أي في البعد عن الركوب معنا ، إن قلت : لا يخلو الحال ، إما إن يكون هذا الولد مسلما أو كافرا ، فإن كان مسلما فيبعده كونه في معزل ، وإن كان كافرا ، فلم عطف عليه وناداه مع علمه بكفره؟ أجيب : بأنه ذكر العلماء أنه كان منافقا ، يظهر الإسلام ويخفي الكفر ، فعند مجيء الطوفان أظهر ما كان يخفيه ، ولا مانع من كون الله يخرج الكافر من المؤمن وبالعكس ، وهذا الولد قيل كان من صلبه وهو الراجح ، وقيل ابن زوجته من نكاح غيره ، وقيل كان ولد خبث ، ولدته زوجته على فراشه ولم يعلم به ، وهذا القول غير وجيه ، لقول ابن عباس : ما بغت امرأة نبي قط. قوله : (سَآوِي) أي ألتجىء. قوله : (مَنْ رَحِمَ) عبر المفسر بلكن ، إشارة إلى أن الاستثناء منقطع ، لأن ما بعد إلا هو المعصوم ، وما قبلها هو العاصم ، ولا شك أنه غيره.
قوله : (وَحالَ بَيْنَهُمَا) أي بين نوح وابنه. قوله : (فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) أي الهالكين بالماء ، ورد أنه أوى إلى جبل عال ، فدخل في غار منه ، وسد على نفسه من كل جهة ، فغرق في بوله وغائطه. قوله : (وَقِيلَ يا أَرْضُ) إلخ ، أي أمر الله الأرض بذلك ، والمراد تعلقت قدرته بزوال الماء على حد قوله تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وهذا القول وقع يوم عاشوراء ، ونزل نوح السفينة لعشر خلون من رجب ، فكان مكثهم في السفينة ستة أشهر ، فلما نجوا صاموا جميعا ، حتى الطيور والوحوش يوم عاشوراء ، شكرا لله على النجاة ، ومرت السفينة بهم بالبيت الحرام ، فطافت به سبع مرات ، وأودع الله الحجر الأسود في جبل أبي قبيس ، وورد أن نوحا حمل أباه آدم معه في السفينة. قوله : (فصار أنهارا وبحارا) أي فماء السماء ، بقي في أماكن من الأرض أنهارا وبحارا ، وماء الأرض ابتلعته الأرض في باطنها. قوله : (نقص) أي ولم يذهب بالكلية ، لما علمت من بقاء ماء السماء. قوله : (جبل بالجزيرة) هي مدينة العراق ، روي أن الله أوحى إلى الجبال ، أن السفينة ترسي على واحد منها ، فتطاولت وبقي الجودي لم يتطاول تواضعا لله ، فاستوت السفينة عليه وبقيت على أعوادها ، وفي الحديث : «بقي منها شيء أدركه أوائل هذه الأمة» ورد أنهم لما خرجوا من السفينة ، بنوا قرية وسموها الثمانين ، لأنهم كانوا ثمانين.
قوله : (وَقِيلَ بُعْداً) منصوب على المصدر بفعل مقدر ، أي بعدوا بعدا ، فهو مصدر بمعنى الدعاء عليهم. قوله : (لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أي فهلكوا جميعا ، حتى البهائم والطيور والأطفال ، على القول بأنهم لم يعقموا ، ولا يسأل عما يفعل ، وهذا الغرق عقوبة للمكلفين لا غيرهم ، قال بعضهم : هذه الآية أبلغ آية في القرآن ، لاحتوائها على أحد وعشرين نوعا من أنواع البديع ، والحال أن كلماتها تسعة عشر ، وخوطب في الأرض أولا بالبلع ، لأن الماء نبع منها أولا ، قبل أن تمطر السماء.