وقيل : إنّ الخطاب للعدوّ والولي بقوله ﴿فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ﴾ . وقيل : إنّ الخطاب للذكر والانثى. وقيل : غير ذلك (١) .
قيل : كرّرت الآية في هذه السورة المباركة إحدى وثلاثين مرة ، ثمان منها بعد تعداد عجائب خلق الله وبدائع صنعه ومبدأ الخلق ومعادهم مبالغة في الحثّ على الشكر ، ثمّ سبع منها عقيب آيات فيها ذكر النار وشدائدها بعدد أبواب جهنّم ، وذكر الالاء عقيبه ؛ لانّ في التخويف بها والبعث على دفعها نعمة توازى النّعم المذكورة ، أو لأنّ ابتلاء الأعداء بها نعمة على المؤمنين ، ثمّ ثمان منها بعد ذكر الجنات ونعمها على عدد أبواب الجنة ، وثمان منها بعد ذكر الجنّتين اللتين دونها ونعمها (٢) .
وقيل : إنّما التفت سبحانه من الغيبة إلى الخطاب ، لكونه أبلغ في التقريع والزجر عن الكفران والتكذيب ، حيث إنّه تعالى نبّه المكذّب الغافل على أنّه كالواقف بين يدي ربّه ، وهو يقول له : إنّي أنعمت عليك بكذا وكذا ، فكيف تكذّب نعمائي ؟ ولا شكّ أن المكذّب يكون عند ذلك أشّد استحياء (٣) ، وإنّما وصف سبحانه ذاته المقدّسة بالربوبية في الآية ، لكونه المناسب لتعداد نعمائه التي من شؤون ربوبيته.
﴿خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ * وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ * فَبِأَيِّ
آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٤) و (١٦)﴾
ثمّ لمّا ذكر سبحانه نعمة خلق الانسان وبسط الأرض لأنتفاع الجنّ والانس ، ذكر مبدأ خلقهما إظهارا لكمال قدرته ، وبيانا لاتمام نعمته بقوله : ﴿خَلَقَ الْإِنْسانَ﴾ أولا وفي البدو ﴿مِنْ صَلْصالٍ﴾ وطين نتن أو يابس ، له صليل وصوت إذا وقع بعضه على بعض ﴿كَالْفَخَّارِ﴾ والطين المطبوخ بالنار ، فانّ مبدأ خلق آدم من تراب جعله طينا ، ثمّ صيّره حمأ مسنونا ، ثمّ صيّره صلصالا ﴿وَخَلَقَ الْجَانَ﴾ وهو أبو الجنّ ، أو جنسه ﴿مِنْ مارِجٍ﴾ وخالص ﴿مِنْ نارٍ﴾ لا يخالطها دخان ، أو من مختلط منها بالدخان ، أو الهواء. قيل : خلق الجن من عنصرين : النار والهواء ، وخلق الانسان من عنصرين : التّراب والماء (٤) .
وعن مجاهد : المارج هو المختلط بعضه ببعض من اللهب الأحمر والأصفر والأخضر الذي يعلو النار (٥) .
__________________
(١) تفسير الرازي ٢٩ : ٩٥.
(٢) تفسير روح البيان ٩ : ٢٩٣.
(٣) تفسير الرازي ٢٩ : ٩٦.
(٤) تفسير روح البيان ٩ : ٢٩٤.
(٥) تفسير روح البيان ٩ : ٢٩٤.