ثمّ أنكر سبحانه عليهما الكفران لنعمه بقوله : ﴿فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما﴾ أيّها الجنّ والانس ﴿تُكَذِّبانِ﴾ وتكفران ؟
﴿رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ * مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ
يَلْتَقِيانِ * بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا
اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٧) و (٢٣)﴾
ثمّ من المعلوم أنّ الربّ الذي له هذه المرتبة من القدرة لا يختصّ ربوبيته بكما ، بل هو ﴿رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ﴾ مشرق الصيف ومشرق الشتاء ، كما عن أمير المؤمنين عليهالسلام (١) ، أو مشرق الشمس ومشرق القمر.
وعن الصادق عليهالسلام : « تأويل المشرقين برسول الله صلىاللهعليهوآله وأمير المؤمنين عليهالسلام » (٢) .
﴿وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ﴾ لكلّ من المشرقين ، وعنه عليهالسلام : « المغربين الحسن والحسين عليهماالسلام» (٣) .
ومن المعلوم أنّ لازم ربوبيته لها ربوبيته لجميع ما بينها من الموجودات والنّعم التي لا تحصى ﴿فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما﴾ ونعمه أيّها الثقلان ﴿تُكَذِّبانِ﴾ وأيّها تنكران ؟
ثمّ لمّا ذكر الشمس والقمر اللذين لهما جريان ، ذكر نعمة البحر الذي له جريان بقوله : ﴿مَرَجَ﴾ وأرسل ﴿الْبَحْرَيْنِ﴾ بحر السماء وبحر الأرض ، أو بحر العذب وبحر الملح الاجاج ، أو بحر الروم وبحر فارس أحدهما إلى الآخر بحيث ﴿يَلْتَقِيانِ﴾ ويتماسّ سطحاهما ، أو بحيث يكون من شأنهما الالتقاء والاختلاط ، ومع ذلك ﴿بَيْنَهُما﴾ في الواقع من الأرض أو غيرها بقدرة الله ﴿بَرْزَخٌ﴾ وحاجز ومانع من الاختلاط.
قيل : إنّ الماء ينجذب بعضه إلى بعض كأجزاء الزئبق (٤) . ولذا لا يكون له إلّا حيّز ومكان واحد ، فلذا من طبع البحرين وشأنهما أن يلتقيا ويختلطا ، ومع ذلك يبقى كلّ في مكان متميّز لمانع جعله الله بقدرته الكاملة ، وقد روي في صورة جريان الماء العذب في الماء المالح أو بالعكس ، وفي جريان الماء الصافي في الماء المختلط بالطين وبالعكس ، لا يختلطان في مقدار من الزمان أو مطلقا ، لمانع جعله الله بينهما بقدرته ، كقطعة من الأرض ﴿لا يَبْغِيانِ﴾ ولا يتجاوزان حدّيهما حتى يمتزجا أو يغرقا ما بينهما من الأرض ، ولا يطلبان غير ما قدر لهما.
__________________
(١) الاحتجاج : ٢٥٩ ، تفسير الصافي ٥ : ١٠٨.
(٢) تفسير القمي ٢ : ٣٤٤ ، تفسير الصافي ٥ : ١٠٨.
(٣) تفسير القمي ٢ : ٣٤٤ ، تفسير الصافي ٥ : ١٠٨.
(٤) تفسير الرازي ٢٩ : ١٠٠.