ثمّ لمّا نزل قوله في السابقين السابقين ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ* وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ﴾ بكى بعض الصحابة وقال : يا نبي الله ، نحن آمنا بك صدّقناك ، ولا ينجو منّا إلا قليل ! فنزلت : ﴿ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ* وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ﴾(١) .
قيل : إنّ الثّلّتين من أمّة نبينا صلىاللهعليهوآله ، الثلة الاولى الذين كانوا في زمانه ، والثلّة الاخرى الذين جاءوا بعد زمانه (٢) .
وفي الحديث : « أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنّة ؟ » قالوا : نعم قال : « أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة ؟ » قالوا : نعم ، قال : « والذي نفس محمد بيده إنّي لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنّة» (٣) .
وفي رواية عنه صلىاللهعليهوآله : « إنّ جميع الثّلّتين من أمّتي » (٤) .
أقول : الأظهر أنّ المراد من الأولين امم الأنبياء السابقين من آدم إلى زمان خاتم النبيين ، ومن الآخرين امّة نبينا صلىاللهعليهوآله ، كما قلنا أولا ، لوضوح أنّ في سائر الامم أصحاب اليمين أيضا ، كما أنّ فيهم السابقين ، ولدلالة قوله : « إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنّة » ولما روي عنه صلىاللهعليهوآله أنه قال : « إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنّة » ثمّ تلا هذه الاية » (٥) ، لوضوح أنّ النصف الآخر والشطر الآخر لا بدّ أن يكون من سائر الامم.
﴿وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ
يَحْمُومٍ * لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤١) و (٤٤)﴾
ثمّ ذكر سبحانه سوء حال الفرقة الثالثة الذين عبّر سبحانه عنهم أولا بأصحاب المشأمة ، لأنّ فساد الدنيا إنّما هو لشؤم كفرهم وعصيانهم ، وعبّر عنهم هنا بقوله : ﴿وَأَصْحابُ الشِّمالِ﴾ قيل : لكونهم في شمال العرش (٦) . وقيل : في شمال المحشر. وقيل : لإعطاء كتاب أعمالهم بشمالهم (٧) فيه.
وما تدرون ﴿ما أَصْحابُ الشِّمالِ﴾ وأيّ شيء هم في الذلّة وسوء العاقبة والحال في الآخرة وشدّة العذاب ؟ أولئك الملعونون في القيامة مستقرّون ﴿فِي سَمُومٍ﴾ ونار نافذ في ثقب أجسادهم ومنافذ أبدانهم. وقيل : إنّ السّموم ريح حارة عفنة قتّالة ﴿وَ﴾ في ﴿حَمِيمٍ﴾ وماء بالغ منتهى الحرارة ﴿وَ﴾ في ﴿ظِلٍ﴾ وفيء ﴿مِنْ﴾ جنس ﴿يَحْمُومٍ﴾ ودخان أسود كالفحم ، أو ظلّ ناشئ من نار
__________________
(١) تفسير روح البيان ٩ : ٣٢٠.
(٢) تفسير روح البيان ٩ : ٣٢٧.
(٣) تفسير روح البيان ٩ : ٣٢٠.
(٤) مجمع البيان ٩ : ٣٣١ ، تفسير الصافي ٥ : ١٢٥.
(٥) مجمع البيان ٩ : ٣٣٢ ، تفسير الصافي ٥ : ١٢٥ ، تفسير روح البيان ٩ : ٣٢٧.
(٦) لم نعثر عليه.
(٧) مجمع البيان ٩ : ٣٣٣ ، تفسير أبى السعود ٨ : ١٩٤ ، تفسير الرازي ٢٩ : ١٦٨.