بقدرتنا ﴿خَلَقْناكُمْ﴾ أوّل مرة ، فاذا علمتم ذلك ﴿فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ﴾ الرسل في قولهم بالبعث ، وهلا تقرّون بخلقكم ثاني مرّة ؟ مع أنّه في نظركم أهون وأسهل ، وإن أنكرتم أنّكم مخلوقون بقدرتنا ، وقلتم : إنّا موجودون من المنيّ بتأثير الطبيعة أو الكواكب فيه ، نقول : ﴿أَفَرَأَيْتُمْ﴾ وأخبروني عن ﴿ما تُمْنُونَ﴾ وتدفقون من المنيّ في ارحام النساء ، فانّه لا بدّ له من خالق يخلقه في أصلابكم ﴿أَأَنْتُمْ﴾ بقدرتكم ﴿تَخْلُقُونَهُ﴾ في أصلابكم ﴿أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ﴾ لذلك المنيّ من غير دخل شيء في خلقه وتقديره في الأصلاب وأطواره وتصويره في الأرحام ؟ لا مجال لأحد إلّا القول بأنّا خالقه ، وإلا لتسلسل ، فمن خلقه وصوّره في ظلمات ثلاث وأحياه ، قادر على إحيائكم ثانيا بعد موتكم.
﴿نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ
وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا
تَذَكَّرُونَ (٦٠) و (٦٢)﴾
ثمّ إنّه تعالى بعد إثبات أن الخلق بقدرته ، لا دخل لأحد فيه ، أثبت أنّ الموت أيضا بقدرته ، ليس قدرته على الخلق والإحياء فقط ، بل الحياة والموت كلاهما بقدرته وإرادته بقوله : ﴿نَحْنُ قَدَّرْنا﴾ وجعلنا ، أو قسّمنا ﴿بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ﴾ بقدرتنا ومشيئتنا المبنية على الحكم البالغة ﴿وَما نَحْنُ﴾ في آن من الآنات ﴿بِمَسْبُوقِينَ﴾ وغير قادرين ﴿عَلى أَنْ﴾ نعدمكم ونميتكم و﴿نُبَدِّلَ﴾ منكم ﴿أَمْثالَكُمْ﴾ ونخلق عوضا منكم في مكانكم أشباهكم في الخلق.
وقيل : قوله : ﴿عَلى أَنْ نُبَدِّلَ﴾ متعلق بقوله : ﴿نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ﴾(١) والمعنى : نحن قدّرنا بينكم الموت ، لكن لا بأن نهلككم دفعة واحدة ، بل قدّرنا بأن نميتكم ونجعل بدلكم في الأرض مثلكم مدّة طويلة ثم نهلككم جميعا ﴿وَنُنْشِئَكُمْ﴾ ونخلقكم ثانيا ﴿فِي ما لا تَعْلَمُونَ﴾ من الوقت والزمان وفيه تحريص على الايمان والعمل الصالح ، والإعداد ليوم لا يعلم وقوعه في أي وقت.
﴿وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى﴾ والخلق الأول في دار الدنيا ، حيث إنّه خلقكم أولا من تراب ، ثمّ من نطفة ، ثمّ من علقة ، ثمّ من مضغة ثمّ جعلكم عظاما ، ثمّ كسا العظام لحما ، ثمّ جعلكم خلقا ذا حياة وقوة وقدرة وشعور ﴿فَلَوْ لا﴾ وهلّا ﴿تَذَكَّرُونَ﴾ وتعتبرون أنّ من قدر عليها قدر على النشأة الاخرى والخلق الآخر ؟
في الخبر : « عجبا كلّ العجب للمكذّب بالنشأة الآخرة ، وهوى يرى النشأة الاولى » (٢) . وعن
__________________
(١) تفسير الرازي ٩ : ١٧٩.
(٢) تفسير روح البيان ٩ : ٣٣١.