ثمّ لمّا ذكر سبحانه بعض أهوال القيامة حثّ المؤمنين على الخشية والخشوع لله بقوله : ﴿أَلَمْ يَأْنِ﴾ وأما حان ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ بعد أن عمّروا طويلا في الايمان ، وشاهدوا آثار عظمة الله ، وعلموا عظم عصيانه وشدّة عقابه ﴿أَنْ تَخْشَعَ﴾ وتضرع وترقّ ﴿قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ﴾ والتنبيه لعظمته ، فيسارعوا إلى طاعته بلا توان وفتور ، أو لموعظته ﴿وَما نَزَلَ مِنَ﴾ القرآن ﴿الْحَقِ﴾ والصدق ، فيبادرون إلى العمل بما فيه من الأحكام التي منها الانفاق في سبيل الله.
روي أنّ المؤمنين كانوا مجدبين بمكة ، فلمّا هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ، ففتروا عمّا كانوا عليه من الخشوع ، فنزلت (١) .
وقيل : إنّه لمّا بدا في الصحابة شيء من المزاح فنزلت (٢) .
عن ابن عباس : أنّ الله استبطأ خشوع قلوب فعاتبهم على رأس ثلاثة عشرة سنة من نزول القرآن(٣) .
وعن ابن مسعود : ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية أربع سنين (٤) .
﴿وَ﴾ لم يأن أن ﴿لا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ﴾ كاليهود والنصارى ﴿فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ﴾ والزمان الذي بينهم وبين أنبيائهم ﴿فَقَسَتْ﴾ وصلبت ﴿قُلُوبُهُمْ﴾ وذهب عنهم الخوف ورقة القلب التي كانت تأتيهم بتلاوة التوراة والانجيل ﴿وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ﴾ اليوم لشدّة قساوة قلوبهم ﴿فاسِقُونَ﴾ وخارجون عن حدود دينهم ، ورافضون لما في كتبهم من الأحكام ، وفيه إشعار بأنّ عدم الخشوع في أوّل الأمر يفضي إلى الفسق والخروج من الدين في الآخر.
﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ *
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ
أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٧) و (١٨)﴾
ثمّ بالغ سبحانه في الترغيب في الخشوع ، بتمثيل القلوب في إحيائها بالخشوع بالأرض الميتة التي تحيا بالمطر بقوله : ﴿اعْلَمُوا﴾ أيّها المؤمنون ﴿أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ﴾ بالمطر الذي ينزل من السماء ﴿بَعْدَ مَوْتِها﴾ ويبسها ، فكذلك القلوب تحيا بالخشوع والذكر وتلاوة القرآن بعد موتها بالقساوة.
وقيل : رغّب سبحانه في الخشوع والخضوع بالتذكير بإحياء الأرض ببعث الأموات (٥)﴿قَدْ بَيَّنَّا﴾ وأوضحنا ﴿لَكُمُ﴾ أيّها الناس ﴿الْآياتِ﴾ التي فيها بيان موجبات سعادتكم في الدارين ﴿لَعَلَّكُمْ
__________________
(١) تفسير أبي السعود ٨ : ٢٠٨ ، تفسير روح البيان ٩ : ٣٦٣.
(٢) تفسير روح البيان ٩ : ٣٦٤.
(٣) تفسير أبي السعود ٨ : ٢٠٨ ، تفسير روح البيان ٩ : ٣٦٤.
(٤) تفسير روح البيان ٩ : ٣٦٤.
(٥) تفسير الرازي ٢٩ : ٢٣٠ ، تفسير روح البيان ٩ : ٣٦٥.