﴿لَرَأَيْتَهُ﴾ يا محمد مع غاية صلابته وعدم تأثّره ممّا يصادفه ﴿خاشِعاً﴾ وضارعا ومنقادا و﴿مُتَصَدِّعاً﴾ ومتشقّقا ﴿مِنْ خَشْيَةِ اللهِ﴾ وخوف عقوبته وعذابه ، فانّ إدراك الجمادات عظمة خالقها ومهابة ربّها وشعورها بشدّة (١) عذابه ممّا ثبت بالآيات كقوله : ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾(٢) وقوله : ﴿وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ﴾(٣) وغيرهما من الآيات والروايات الكثيرة كرواية بكاء الجبل من خوف أن يكون من حجارة جهنّم (٤) وغيرها ، فلا وجه لما قيل : من أنّ الآية من باب التمثيل والتخييل (٥) ، والمعنى لو جعل في الجبل حياة وعقل ، كما جعل فيكم ، ثمّ أنزل عليه القرآن بمواعظه وإنذاراته لصار خاشعا ، ولم تتأثّر قلوب الكفار ، فهي أشدّ قسوة من الحجارة ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثالُ﴾ والبيانات العجيبة ﴿نَضْرِبُها﴾ ونبيّنها ﴿لِلنَّاسِ﴾ كافة ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ فيها ، فيتّعظون بها.
﴿هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ * هُوَ
اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ
الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ
الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْحَكِيمُ (٢٢) و (٢٤)﴾
ثمّ لمّا كان عظمة القرآن وقوّة تأثيره منوطا بمعرفة عظمة الله وكمال قدرته ، شرع سبحانه في بيان صفاته الجليلة الدالة على كمال عظمته بقوله : ﴿هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ﴾ ولا معبود بالحقّ سواه في عالم الوجود ، وهو ﴿عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ﴾ المطّلع على المعدومات والموجودات أو على ما غاب عن الحواسّ وما يدرك بها ، أو على السرّ والعلانية ، أو على الدنيا والآخرة ، و﴿هُوَ﴾ وحده ﴿الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ﴾ قد تكرّر في السابق تفسيره ﴿هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ﴾ والسّلطان المطلق في جميع عوالم الوجود ﴿الْقُدُّوسُ﴾ والبليغ في النزاهة عن العيوب في ذاته ﴿السَّلامُ﴾ قيل : يعني السالم عن الآفات لا يطروءه (٦) نقص في ذاته وصفاته (٧) وقيل : يعني معطي السلامة للموجودات (٨) . وقيل : يعني المسلّم على المؤمنين في الجنة (٩) .
__________________
(١) في النسخة : شدّة.
(٢) الإسراء : ١٧ / ٤٤.
(٣) البقرة : ٢ / ٧٤.
(٤) الخرائج والجرائح ١ : ١٦٩ / ٢٥٩.
(٥) جوامع الجامع : ٤٨٨ ، تفسير البيضاوي ٢ : ٤٨٣ ، تفسير أبي السعود ٨ : ٢٣٣.
(٦) كذا ، والظاهر : لا يطرؤ عليه.
(٧و٨) تفسير روح البيان ٩ : ٤٥٩.
(٩) تفسير روح البيان ٩ : ٤٥٩.