وكذا لكم أيّها المؤمنون الأسوة في إبراهيم عليهالسلام ومن معه في دعائهم بقوله : ﴿رَبَّنا﴾ ومليكنا ﴿عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا﴾ واعتمدنا في جميع امورنا ﴿وَإِلَيْكَ﴾ يا ربّ ﴿أَنَبْنا﴾ ورجعنا من ذنوبنا ومعاصينا بالتوبة والطاعة ﴿وَإِلَيْكَ﴾ وحدك ﴿الْمَصِيرُ﴾ والمرجع بعد الموت وحين الخروج من القبر ﴿رَبَّنا لا تَجْعَلْنا﴾ ولا تصيّرنا في الدنيا ﴿فِتْنَةً﴾ وامتحانا وبلاء ﴿لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بأن تسلّطهم علينا ، فيظنّون بذلك أنّهم على الحقّ ، كما عن ابن عباس (١) .
وقيل : إنّ المعنى لا تعذّبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك ، فيقولوا : لو كان هؤلاء على الحقّ لما أصابهم ذلك (٢)﴿وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا﴾ واستر ذنوبنا في الدنيا والآخرة ﴿إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ﴾ والقادر على إنفاذ إرادتك ، فلا تذلّ من لجأ إليك ﴿الْحَكِيمُ﴾ في فعاله ، فلا يصدر منك إلّا ما فيه الصلاح الأتمّ.
﴿لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ
فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ
مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦) و (٧)﴾
ثمّ أكّد سبحانه وجوب التأسّي بإبراهيم عليهالسلام ومن معه بقوله تعالى : ﴿لَقَدْ كانَ لَكُمْ﴾ أيّها المؤمنون بمحمّد صلىاللهعليهوآله ﴿فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ أعني ﴿لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ﴾ ويأمل النيل بثوابه ، ويؤمن بلقائه ﴿وَالْيَوْمَ الْآخِرَ﴾ ويصدّق به ، لوضوح أنّ من يؤمن بالله وبيوم الجزاء لا يترك التأسّي بإبراهيم عليهالسلام ﴿وَمَنْ يَتَوَلَ﴾ ويعرض عن الاقتداء بهم ، وعن مواعظ الله ﴿فَإِنَّ اللهَ﴾ وحده ﴿هُوَ الْغَنِيُ﴾ بالذات عنه وعن جميع خلقه ، وطاعتهم ونصرتهم لدينه ﴿الْحَمِيدُ﴾ والمحمود في ذاته وصفاته ، أو المستحقّ للحمد وإن لم يكن حامدا ﴿عَسَى اللهُ﴾ والرجاء منه ﴿أَنْ يَجْعَلَ﴾ ويوجد ﴿بَيْنَكُمْ﴾ أيّها المؤمنون ﴿وَبَيْنَ﴾ الكفّار ﴿الَّذِينَ عادَيْتُمْ﴾ وباغضتم ﴿مِنْهُمْ﴾ بسبب اختلاف الدين ﴿مَوَدَّةً﴾ ومحبّة بأن يوفّقهم للاسلام ويوافقهم معكم في الدين ، كما جعل باسلام جميع أهل مكة ومخالطتهم أصحاب الرسول ومناكحتهم فيهم ﴿وَاللهُ قَدِيرٌ﴾ على تقليب قلوبهم وتغيير سوء أخلاقهم إلى حسنها ﴿وَاللهُ غَفُورٌ﴾ لمن أسلم ، أو لمن فرط منكم في موالاتهم من قبل ﴿رَحِيمٌ﴾ بالمؤمنين.
عن الباقر عليهالسلام : « أنّ الله أمر نبيه والمؤمنين بالبراءة من قومهم ماداموا كفارا ، فقال : ﴿لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ قطع الله ولاية المؤمنين منهم ، وأظهروا لهم العداوة ، ثمّ قال : ﴿عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً﴾ فلمّا أسلم أهل مكة خالطهم أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآله
__________________
(١و٢) تفسير الرازي ٢٩ : ٣٠٢.