وبراءتك من كلّ عيب واتّصافك بكلّ مكرمة ﴿بِمَجْنُونٍ﴾ لوضوح منافاة هذه الصفات الكمالية لهذه النسبة الشنيعة.
عن ابن عباس رضوان الله عليه : أنّ النبي صلىاللهعليهوآله غاب عن خديجة إلى حراء ، فطلبته فلم تجده ، فاذا به ووجهه متغيّر بلا غبار ، فقالت له : مالك ؟ فذكر نزول جبرئيل عليه ، وأنّه قال له : ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾(١) وهو أوّل ما نزل من القرآن. قال : « ثمّ نزل بي إلى قرار الأرض ، فتوضّأ وتوضّأت ، ثمّ صلّى وصلّيت معه ركعتين ، وقال : هكذا الصلاة يا محمد » فذهبت خديجة إلى ورقة بن نوفل ، وهو ابن عمّها ، وكان قد خالف قريش في الدين ، ودخل في دين النصرانية ، فسألته فقال : ارسلي إليّ محمدا فأرسلته ، فلمّا أتاه قال : هل أمرك جبرئيل أن تدعو أحدا ؟ قال : « لا » فقال : والله لئن بقيت إلى دعوتك لأنصرنّك نصرا عزيزا. ثمّ مات قبل دعاء الرسول صلىاللهعليهوآله ووقعت تلك الواقعة في ألسنة قريش ، فقالوا : إنّه مجنون ، فاقسم الله على أنّه ليس بمجنون ، وهو خمس آيات من أول هذه السورة (٢) .
﴿وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٣) و (٤)﴾
ثمّ سلّى سبحانه رسوله صلىاللهعليهوآله بقوله : ﴿وَإِنَّ لَكَ﴾ يا محمد بإزاء صبرك على أذى قومك وتحمّلك أعباء الرسالة ﴿لَأَجْراً﴾ عظيما وثوابا جسيما ﴿غَيْرَ مَمْنُونٍ﴾ ومنقوص ، وعطاء غير مجذوذ ومقطوع. وقيل : يعني بغير واسطة يمنّ عليك بإيصاله إليك ، أو بغير أن يتكدّر عليك بسبب المنّة لأنّه ممّا تستحقّه بعملك ، وليس من التفضّل الابتدائي (٣) .
في بيان خلق الرسول صلىاللهعليهوآله
﴿وَإِنَّكَ﴾ بنعمة ربّك وتفضّله عليك ﴿لَعَلى خُلُقٍ﴾ ودين ﴿عَظِيمٍ﴾ الشأن عند الله ، وهو الاسلام. عن الباقر عليهالسلام : « يقول : على دين عظيم » وفي رواية : « هو الاسلام » (٤) فانّ فيه جميع مكارم الأخلاق ، والتنزّه عن كلّ مساوئها بحيث لا يدانيه دين وأنت ملتزم به مسؤول عليه ، لا يفوتك شيء منه ، ولذا فقت سائر الأنبياء والرسل في الكمال والمعارف وحسن الأخلاق والأعمال.
روي أنّه قيل لعائشة : أخبريني عن خلق رسول الله صلىاللهعليهوآله. قالت : أ لست تقرأ القرآن ؟ قلت : نعم. قالت : فإنّه كان خلق رسول الله. وسئلت مرّة اخرى فقالت : كان خلقه القرآن. ثمّ قرأت : ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ إلى عشر آيات (٥) .
__________________
(١) العلق : ٩٦ / ١.
(٢) تفسير الرازي ٣٠ : ٧٩.
(٣) تفسير روح البيان ١٠ : ١٠٥.
(٤) معاني الأخبار : ١٨٨ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ٢٠٨.
(٥) تفسير الرازي ٣٠ : ٨١ ، والآية من سورة المؤمنون : ٢٣ / ١.