ظنّوا أنّ ذلك من الجنّ ، فازدادوا رغبة في طاعة الشياطين وقبول وساوسهم (١) .
روي عن كردم بن أبي السائب الأنصاري أنّه قال : خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة ، وذلك أوّل ما ذكر النبي صلىاللهعليهوآله بمكّة ، فاذا في المبيت أتى (٢) راعي غنم ، فلمّا انتصف الليل جاء الذئب فحمل حملا من الغنم فقال الراعي يا عامر الوادي جارك. فنادى مناد لا نراه : يا سرحان أرسله ، فأتى الحمل يشتدّ حتى دخل في الغنم ولم تصبه كدمة ، فأنزل الله على رسوله بمكة : ﴿وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ ...﴾(٣) الى آخره.
وعن مقاتل : كان أوّل من تعوّذ بالجنّ قوم من أهل اليمن ، ثمّ من حنيفة ، ثمّ فشا ذلك في العرب ، فلمّا جاء الاسلام عاذوا بالله وتركوهم (٤) .
﴿وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً * وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها
مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ
الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٧) و (٩)﴾
ثمّ إنّ النفر من الجنّ بعد دعوتهم قومهم إلى التوحيد دعوهم إلى القول بالرسالة بقوله : ﴿وَأَنَّهُمْ﴾ يا قوم ﴿ظَنُّوا﴾ لجهالتهم ﴿كَما ظَنَنْتُمْ﴾ لسفاهتكم ﴿أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ﴾ من بعد موسى ، أو بعد عيسى ، أو مطلقا من أول الخلق ﴿أَحَداً﴾ بالرسالة ليقيم به الحجّة على خلقه ، ثمّ علمنا أنّه تعالى بعث إلى الإنس محمدا بالرسالة فآمنوا به يا معشر الجنّ.
وقيل : إنّ المراد أنّ الانس ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله بعد الموت للحساب والمجازاة على الأعمال أحدا (٥) .
وقيل : إنّ الآيتين من كلام الله ، والمعنى على ذلك القول : وإنّ الجن ظنّوا كما ظننتم يا كفّار قريش أن لن يبعث الله أحدا للرسالة ، كما هو مذهب البراهمة (٦) .
ثمّ حكى النفر من الجنّ لقومهم الانقلاب الحاصل في السماء بقولهم : ﴿وَأَنَّا لَمَسْنَا﴾ وطلبنا ﴿السَّماءَ﴾ وصعدنا إليها لاستماع ما تقول الملائكة من الإخبار بالحوادث ، لنخبر بها الكهنة على دأبنا السابق ﴿فَوَجَدْناها مُلِئَتْ﴾ من الملائكة حال كونهم ﴿حَرَساً﴾ وحفظة ﴿شَدِيداً﴾ وقويا على دفعنا يمنعوننا عن القرب من السماء ﴿وَ﴾ وجدنا ﴿شُهُباً﴾ وشعلا من النار منقضّة من الكواكب
__________________
(١) تفسير روح البيان ١٠ : ١٩١.
(٢) في تفسير روح البيان : بمكة ، فأدّاني المبيت إلى.
(٣) تفسير روح البيان ١٠ : ١٩١.
(٤) تفسير روح البيان ١٠ : ١٩٢.
(٥) تفسير روح البيان ١٠ : ١٩٢.
(٦) تفسير الرازي ٣ : ١٥٧.