لا بدّ من حملها بالنظر إلى هذه الآية والروايات على كونها مانعة من دخول الشياطين فيها لا من قربهم إليها بحيث يستمعون كلام الملائكة ، وبعد ظهور النبي صلىاللهعليهوآله وبعثته منعوا بالشّهب من قربها.
وأمّا الاعتراض على الروايات بأنّ الشهب كامن (١) قديم الأيام ، كما دلّ عليه تكلّم الفلاسفة فيها ، والأشعار التي حكيت من شعراء زمان الجاهلية.
فنقول : إنّ الشّهب التي كانت قبل البعثة فهي الحادثة من كرة النار ، والشهب التي كانت تنقضّ لمنع الشياطين كانت من النجوم ، ومقتضى ذلك كثرة الشّهب بعد البعثة لزيادة الشّهب التي تحدث من النجوم على الشّهب التي كانت قبل ، ولذا استوحشت قريش من رؤيتها.
﴿وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً * وَأَنَّا مِنَّا
الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً * وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي
الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٠) و (١٢)﴾
ثمّ بعد حكاية النفر من الجنّ تغيير وضع السماء قالوا لقومه : ﴿وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ﴾ من ذلك التغيير ﴿بِمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ من الإنس والجنّ ﴿أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً﴾ وخيرا وصلاحا.
قيل : إنّ المعنى لا ندري أنّ المقصود من إرسال محمد الذي منعنا عنده من استراق السمع أن تكذّبه امّته فيهلكوا (٢) كما أهلك الامم المكذّبة قبله ، أم اريد أن يؤمنوا فيهتدوا (٣) وفي نسبة الخير إلى الله دون الشرّ رعاية الأدب.
ثمّ حكوا اختلاف فرقهم بقولهم : ﴿وَأَنَّا مِنَّا﴾ الأقوام ﴿الصَّالِحُونَ﴾ والراغبون إلى الايمان والأعمال الخيرية ﴿وَمِنَّا﴾ قوم حالهم ﴿دُونَ ذلِكَ﴾ الحال ، وأنقص من مرتبة الكمال ، ففيهم المقتصد والفاسق والكافر والطاغي ﴿كُنَّا طَرائِقَ﴾ وذوي مذاهب ﴿قِدَداً﴾ ومختلفة. وقيل : كنّا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة (٤) ﴿وَأَنَّا ظَنَنَّا﴾ وتيقنا بالدليل القاطع والبرهان الساطع والتفكّر في الآيات ﴿أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ﴾ عن إنفاذ إرادته في شأننا أينما كنّا ﴿فِي﴾ وجه ﴿الْأَرْضِ﴾ ومن أقطارها ﴿وَلَنْ نُعْجِزَهُ﴾ ونفوته أبدا إن أراد بنا أمرا أن نهرب من الأرض إلى السماء أو البحار أو الجبال ﴿هَرَباً﴾ ينجينا من سطواته ، فلا يمكننا الخروج من سلطانه ومن تحت قدرته.
﴿وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً *
__________________
(١) كذا ، والظاهر : كانت من.
(٢) في النسخة : فهلكوا.
(٣) تفسير الرازي ٣٠ : ١٥٨ ، وفيه : فنهيدوا.
(٤) تفسير الرازي ٣٠ : ١٥٩.