ثمّ إنّه تعالى بعد هذه الموعظة النافعة مدح القرآن العظيم المشتمل عليها بقوله : ﴿إِنَّها تَذْكِرَةٌ﴾ وعظة لأهل العالم إلى يوم القيامة ﴿فَمَنْ شاءَ﴾ التذكّر والاتّعاظ بالقرآن ﴿ذَكَرَهُ﴾ واتّعظ به أو حفظه ولا ينساه ، فانّه مكتوب آياته ﴿فِي صُحُفٍ﴾ ودفاتر منتسخة من اللوح المحفوظ ﴿مُكَرَّمَةٍ﴾ تلك الصّحف عند الله ، لكونها صحف القرآن الكريم ﴿مَرْفُوعَةٍ﴾ في السماوات ، موضوعة في البيت المعمور الذي يكون في السماء الرابعة ، أو في بيت العزّة الذي يكون في السماء الدنيا ، أو مرفوعة القدر والمنزلة ﴿مُطَهَّرَةٍ﴾ ومنزّهة من مساس أيدي الشياطين ، منتسخة في السماء ، أو منزلة إلى الأرض ﴿بِأَيْدِي﴾ ملائكة ﴿سَفَرَةٍ﴾ الذين يسافرون بالوحي بين الله وبين رسله ، أو الكتبة كما عن بن عباس(١) ﴿كِرامٍ﴾ اولئك الملائكة على ربّهم ، أو متكرّمين من أن يكونوا مع ابن آدم عند الجماع وقضاء الحاجة ﴿بَرَرَةٍ﴾ ومطيعين لله.
قيل : إنّ المراد من الصّحف صحف الأنبياء (٢) ، والمراد من السّفرة الكرام أصحاب الرسول (٣) ، أو القرّاء (٤) ، وليس بشيء.
﴿قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ
السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ * كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما
أَمَرَهُ (١٧) و (٢٣)﴾
ثمّ لمّا كان الكفّار تكبّروا عن الايمان بهذا القرآن الذي يكون في نهاية العظمة ، واستنكفوا عن تصديقه وقبوله ، ذمّهم سبحانه ، وأظهر الغضب عليهم بقوله : ﴿قُتِلَ الْإِنْسانُ﴾ وهو دعاء عليه بما يكون عند العرب أشنع الدعوات ﴿ما أَكْفَرَهُ﴾ وأشد كفره بربّه مع كثرة إحسانه إليه وإنعامه عليه ، أما يتفكّر في أنّه ﴿مِنْ أَيِّ شَيْءٍ﴾ حقير مهين ﴿خَلَقَهُ﴾ الله وكوّنه. قيل : نزلت في عتبة بن أبي لهب (٥).
ثمّ بيّن سبحانه ذلك الشيء القذر الذي كان مبدأ خلقه بقوله : ﴿مِنْ نُطْفَةٍ﴾ قذرة ﴿خَلَقَهُ﴾ الله وأوجده ﴿فَقَدَّرَهُ﴾ وسوّاه إنسانا كامل الأعضاء والجوارح والقوى. وقيل : يعني قدّر كلّ عضو منه كميه وكيفية بالقدر اللائق بمصلحته (٦) . وقيل : يعني قدّره أطوارا نطفة ثمّ علقة ثمّ مضغة إلى آخر خلقه ، ذكرا أو انثى ، سعيدا أو شقيا (٧) ، فمن كان أصله ومبدأ خلقه ذلك الشيء الحقير المهين ، كيف يرى لنفسه العظمة ويتكبّر ويتبختر ؟
__________________
(١-٤) تفسير الرازي ٣١ : ٥٨.
(٥) تفسير الرازي ٣١ : ٥٩.
(٦) تفسير الرازي ٣١ : ٦٠.
(٧) تفسير الرازي ٣١ : ٦٠ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٣٣٥.