في النار وصبيها ، وكان ممّن تكلّم في المهد » (١) .
أقول : قد ظهر أنّ الروايات في القصة مختلفة ، وجمعها وإن كان ممكنا إلّا أنه لا يهمّنا ، لعدم حجّيتها في المقام ، وإنّما المعلوم من جميعها أنّ ملكا من الكفّار ، أو قوما منهم ، حفروا اخدودا وأحرقوا جمعا من المؤمنين بالنار لإيمانهم ، ولا يبعد أنّ القصة كانت مشهورة في العرب ، ذكرها سبحانه تسلية للنبي صلىاللهعليهوآله والمؤمنين المبتلين بإيذاء المشركين.
﴿النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ * وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ
شُهُودٌ * وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥) و (٩)﴾
ثمّ فسّر سبحانه الاخدود بقوله : ﴿النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ﴾ والتقدير : أعني بالاخدود النار التي اوقدت بالحطب في الاخدود ، فارتفع لهبها وأحرق اولئك القوم ﴿إِذْ هُمْ﴾ بعد إيقاد النار وإلقاء المؤمنين فيها كانوا ﴿عَلَيْها قُعُودٌ﴾ على سرر وكراسي على ما قيل (٢) ، ينظرون إلى احتراق المؤمنين فيها ﴿وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ﴾ من الإحراق والتعذيب ﴿شُهُودٌ﴾ عند الملك ، يشهدون أنّ أحدا من المأمورين لم يقصّر فيما أمرته لرحم وإشفاق.
وقيل : إنّهم شهود على عملهم الشنيع يوم القيامة ، حيث إنّه تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون (٣) .
﴿وَما نَقَمُوا﴾ اولئك الجبارون من المؤمنين ، وما أنكروا ﴿مِنْهُمْ﴾ عملا ﴿إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا﴾ اولئك المؤمنون ﴿بِاللهِ﴾ الذي يجب بحكم العقل الايمان به ، لأنّه تعالى هو ﴿الْعَزِيزِ﴾ والقاهر على كلّ شيء ، وهو ﴿الْحَمِيدِ﴾ والمستحقّ للحمد ، لكونه منعما على جميع الموجودات ، فعلى العاقل أن يخاف من سطوته وقهّاريته إن لم يؤمن به ، ويرجو نعمه وإحسانه إن آمن به ، وهو ﴿الَّذِي لَهُ﴾ وحده ﴿مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ والسلطنة المطلقة في عوالم الملك والملكوت ، يعذّب من يشاء ويرحم من يشاء ﴿وَ﴾ هو ﴿اللهُ﴾ والإله المستجمع لجميع الكمالات والخالق لكلّ شيء ، وهو ﴿عَلى كُلِّ شَيْءٍ﴾ من أفعال الكفّار والمؤمنين وغيرها من الموجودات الحقيرة والجليلة الظاهرة والخفية حتى الخواطر والضمائر ﴿شَهِيدٌ﴾ ومطّلع إطّلاع الحاضر المشاهد ، فيعذّب الكفّار والعصاة
__________________
(١) مجمع البيان ١٠ : ٧٠٦ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٠٩.
(٢) تفسير روح البيان ١٠ : ٧٠٦.
(٣) تفسير روح البيان ١٠ : ٣٨٩.