ترائبها (١) .
فإذا ظهر أنّ القادر الحكيم خلق الانسان الذي هو أنموذج العالم الكبير من النّطفة ، ظهر عنده كالشمس في رائعة النهار ﴿إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ﴾ وإعادة خلقه بعد موته وصيرورته ترابا ﴿لَقادِرٌ﴾ فيخلقه بقدرته ﴿يَوْمَ تُبْلَى﴾ وتخبر ﴿السَّرائِرُ﴾ والضمائر من العقائد والنيات وغيرها من المخفيات لجميع الناس ، فيتباهى المؤمن الخالص الحسن السريرة ، ويفتضح المنافق المرائي السيء السريرة.
عن ( المجمع ) عن النبي صلىاللهعليهوآله أنّه سئل : ما هذه السرائر التي ابتلى الله بها العباد في الآخرة ؟ فقال : سرائركم هي أعمالكم من الصلاة والصيام والزكاة والوضوء والغسل من الجنابة ، وكلّ مفروض ، لأن الأعمال كلّها سرائر خفية ، فان شاء الرجل قال : صلّيت ولم يصل ، إن شاء قال : توضّأت ولم يتوضّأ ، فذلك قوله : ﴿يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ﴾(٢) . ﴿فَما﴾ للانسان ، وليس ﴿لَهُ﴾ في ذلك اليوم ﴿مِنْ قُوَّةٍ﴾ في نفسه يدفع بها العذاب الذي حلّ به ﴿وَلا ناصِرٍ﴾ ينتصر به فيحفظه من العذاب بالقوة والحيلة والشّفاعة.
﴿وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ * وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ * إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَما هُوَ
بِالْهَزْلِ * إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ
رُوَيْداً (١١) و (١٧)﴾
ثمّ بيّن سبحانه عظمة القرآن بقوله : ﴿وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ﴾ وصاحبة المطر ، كما عن ابن عباس (٣) ، إنّما سمّى المطر رجعا لظنّ العرب أنّ السّحاب يحمل الماء من الأرض ، ثمّ يرجعه إليها ، ويحتمل كون المراد بتوصيف السماء بالرجوع كونها ذات حركة دورية. وقيل : إنّه باعتبار أنّ شمسها وقمرها ونجومها تغيب وتطلع (٤) . ﴿وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ﴾ والانشقاق لنبعان العيون وخروج النباتات.
ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه ، وهو عظمة القرآن بقوله : ﴿إِنَّهُ لَقَوْلٌ﴾ وكلام ﴿فَصْلٌ﴾ وقاطع للمراء والجدال ، وفاصل بين الحقّ والباطل ، ومميّز كلّ منهما عن الآخر ، لظهور الاعجاز فيه وكونه كلام الله ﴿وَما هُوَ بِالْهَزْلِ﴾ بل كلّه جدّ مطابق للواقع ، فحقّه أن يهتدى به ويطرح ما خالفه.
ثمّ ذمّ كفّار مكّة بقوله : ﴿إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ﴾ ويحتالون في إبطاله وإطفاء نوره بإلقاء الشّبهات نسبته إلى الشعر والسحر والكهانة والاختلاق ﴿كَيْداً﴾ بليغا ﴿وَأَكِيدُ﴾ أنا أيضا ، وادبّر في ترويجه وإبطال
__________________
(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٣٩٩.
(٢) مجمع البيان ١٠ : ٧١٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٣١٤.
(٣) مجمع البيان ١٠ : ٧١٥ ، تفسير الصافي ٥ : ٣١٤.
(٤) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٠٠.