ثمّ بعد ذلك ﴿تَصْلى﴾ وتدخل ﴿ناراً حامِيَةً﴾ وبالغة أعلى درجة الشدّة في الحرارة ﴿تُسْقى﴾ تلك الوجوه وأصحابها بعد استغاثتهم في مدّة طويلة من شدّة العطش ﴿مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ﴾ ومتناهية في الحرارة.
قيل : لو وقعت قطرة منها على جبال الدنيا لذابت ، وإذا ادنيت من وجوههم تناثرت لحومها ، وإذا شربوا قطعت أمعاءهم (١) .
﴿لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ﴾ وشوك يابس فيه سمّ قاتل ، كما قيل (٢) .
وعن ابن عباس : الضريع شيء في النار يشبه الشوك ، أمر من الصبر ، وأنتن من الجيفة ، وأشدّ حرّا من النار (٣) .
أقول : الظاهر أن المراد نار الدنيا.
قيل : هذا طعام بعض أهل النار ، والزقّوم والغسلين طعام آخرين (٤) .
عن الصادق عليهالسلام في تأويل الآيات ﴿هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ﴾ قال : « يغشاهم القائم عليهالسلام بالسيف ﴿خاشِعَةٌ﴾ لا تطيق الامتناع ﴿عامِلَةٌ﴾ قال : عملت بغير ما أنزل الله ﴿ناصِبَةٌ﴾ قال نصبت غير ولاة أمر الله ﴿تَصْلى ناراً﴾ الحرب في الدنيا على عهد القائم ، وفي الآخرة نار جهنم»(٥) .
ثمّ روي أنّ كفار قريش قالوا استهزاء : إنّ الضريع ليسمن إبلنا (٦) ، فنزلت ﴿لا يُسْمِنُ﴾ الضريع آكله ، لأنّه يصير جزء بدنه ﴿وَلا يُغْنِي﴾ ولا يكفي ﴿مِنْ جُوعٍ﴾ لأنّه ليس بطعام للبهائم فضلا عن الإنس ، إذ ليس فيه منافع الغذاء ، بل أكله عذاب فوق العذاب.
﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ * لِسَعْيِها راضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ * لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً *
فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ * فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ
* وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (٨) و (١٦)﴾
ثمّ لمّا ذكر سبحانه سوء حال الكفّار في الآخرة ، بيّن حسن حال المؤمنين فيها بقوله : ﴿وُجُوهٌ﴾ اخر ﴿يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ﴾ ومبتهجة وحسنة مضيئة ، أو متنعّمة بالنّعم الجسمانية والروحانية ﴿لِسَعْيِها﴾ وعملها في الدنيا ﴿راضِيَةٌ﴾ لرضائها بثمراتها وثوابها متمكّنة ﴿فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ﴾ ومرتفعة فوق السماوات ، أو عالية المقدار لكمال شرفها وما فيها من النّعم ﴿لا تَسْمَعُ﴾ تلك الوجوه ﴿فِيها﴾ كلمة
__________________
(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٤١٣.
(٢و٣) تفسير روح البيان ١٠ : ٤١٣.
(٤) تفسير الرازي ٣١ : ١٥٣.
(٥) الكافي ٨ : ٥٠ / ١٣ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٢١.
(٦) تفسير الرازي ٣١ : ١٥٣.