وإنّها لتزفر زفرة ، فلو لا أنّ الله أخّرهم للحساب لأهلكت الجمع ، ثمّ يخرج منها عنق فتحيط بالخلائق البرّ منهم والفاجر ، ما خلق الله عبدا من عباد الله ملكا ولا نبيا إلّا ينادي : نفسي نفسي ، وأنت يا نبي الله تنادي : امّتي امّتي ، ثمّ يوضع عليها الصّراط أدقّ من الشّعر ، وأحد من حدّ السيف ، عليه ثلاث قناطر ، فأمّا واحدة فعليها الأمانة والرّحم ، والثانية فعليها الصلاة ، والثالثة فعليها ربّ العالمين لا إليه غيره ، فيكلّفون الممرّ عليها ، فيحبسهم الرّحم والأمانة فان نجوا منهما حبستهم الصلاة ، فان نجوا منها كان المنتهى إلى ربّ العالمين ، وهو قوله : ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ﴾ والناس على الصّراط ، فمتعلّق بيد وتزلّ قدم ويستمسك بقدم ، والملائكة حولها ينادون : يا حليم اعف وصفح وعد بفضلك وسلّم ، والناس يتهافتون في النار كالفراش فيها ، فاذا نجا ناج فبرحمة الله مرّ بها فقال : الحمد لله وبنعمته تتمّ الصالحات وتزكو الحسنات ، والحمد لله الذي أنجاني منك بعد إياس بمنّة وفضله ، إنّ ربي لغفور شكور»(١) .
﴿يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ﴾ ويتّعظ ويندم ﴿الْإِنْسانُ﴾ على ما فرّط في جنب الله ﴿وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى﴾ وأي نفع له في الاتّعاظ والنّدم بعد فوات أوانه ؟ و ﴿يَقُولُ﴾ تندّما وتحسّرا ﴿يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ﴾ وأتيت بطاعة الله ورسله ، وعملت بما كلّفت به من قبلهم ﴿لِحَياتِي﴾ هذه ويوم بعثي هذا أو في وقت حياتي في الدنيا أعمالا تنجيني اليوم من العذاب.
﴿فَيَوْمَئِذٍ﴾ وحين انتقام الله من العصاة ﴿لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ﴾ فان شدّة عذابه فوق ما يتصوّر ﴿وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ﴾ ولا يشدّ بالعمل والأغلال مثل شدّة ﴿أَحَدٌ﴾ فانّ شدّه بسلسلة ذرعها سبعون ذراعا.
﴿يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي
عِبادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي (٢٧) و (٣٠)﴾
ثمّ لمّا ذكر سبحانه سوء حال النفوس الشقيّة الأمّارة بالسوء ، ذكر حال النفوس الطيّبة الزكيّة وسعادتها بقوله : ﴿يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ﴾ بذكر الله الساكنة في جوار رحمة الله ﴿ارْجِعِي إِلى﴾ ما أعدّ لك من كرامة ﴿رَبِّكِ﴾ الكريم وثوابه العظيم حال كونك ﴿راضِيَةً﴾ بما أعدّ الله لك من الجنّة والقصور العالية والنّعم الباقية ﴿مَرْضِيَّةً﴾ عند الله ﴿فَادْخُلِي فِي﴾ زمرة ﴿عِبادِي﴾ الصالحين المخلصين ﴿وَادْخُلِي﴾ معهم في ﴿جَنَّتِي﴾.
قيل : إذا أراد الله قبضها اطمأنّت إلى الله ، ورضيت عن الله ، ورضي الله عنها (٢) .
__________________
(١) تفسير القمي ٢ : ٤٢١ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٢٦.
(٢) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٣٢.