شخصه أنّه ﴿اسْتَغْنى﴾ وصار ذا مال وجاه وقدرة فلا يتفكّر في أطوار خلقته وترقّيه من أخسّ الأحوال إلى أعلاها ، وأنّه من أول وجوده تحت قدرة قادر قاهر حكيم.
وقيل : إنّ كلمه ﴿كَلَّا﴾ ردع لمن كفر بنعمة الله بطغيانه (١) .
روي أنّ أبا جهل قال لرسول الله صلىاللهعليهوآله : أتزعم أنّ من استغنى طغى ، فاجعل لنا جبال مكّة فضّة وذهبا ، لعلّنا نأخذ منها فنطغى ، فندع ديننا ونتّبع دينك. فنزل جبرئيل فقال : إن شئت فعلنا ذلك ، ثمّ إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا بأصحاب المائدة ، فكفّ رسول الله صلىاللهعليهوآله عن الدعاء إبقاء عليهم ورحمة لهم(٢) .
﴿إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى * أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى * عَبْداً إِذا صَلَّى (٨) و (١٠)﴾
ثمّ هدّد سبحانه الانسان الطاغي عليه بقوله : ﴿إِنَّ إِلى رَبِّكَ﴾ ومالك أمرك وحده أيّها الانسان ﴿الرُّجْعى﴾ والمصير بالموت ، أو بالبعث ، فترى سوء عاقبة طغيانك.
وقيل : إنّ المعنى أنّ مرجع الانسان إلى الله ، فكما أنّه ردّه من النقصان إلى الكمال ، يردّه ويرجعه إلى النقصان والفقر والموت (٣) .
ثمّ بيّن سبحانه غاية طغيان الانسان مظهرا للتعجّب منه بقوله : ﴿أَرَأَيْتَ﴾ وهل عاينت يا محمد ، أو أيّها الرائي ، الطاغي ﴿الَّذِي﴾ بلغ بطغيانه إلى أنّه ﴿يَنْهى﴾ ويمنع عن الصلاة والقيام بوظيفة العبودية لربّ الأرباب ﴿عَبْداً﴾ ممحضا في العبودية له ﴿إِذا صَلَّى﴾ وقام بخدمة مولاه ؟
روي أنّ أبا جهل قال في ملأ من طغاة قريش : هل يعفّر محمد وجهه بين أظهركم ؟ قالوا : نعم. قال : فو الذي نحلف به لئن رأيته يصلّي لأطئنّ عنقه ، ثمّ إنّه رأى رسول الله صلىاللهعليهوآله في الصلاة - قيل : هي صلاه الظهر - فجاءه (٤) ، وقيل : همّ أن يلقى على رأسه حجرا فنكص على عقبيه ، فقالوا : مالك ؟ فقال : إنّ بيني وبينه لخندقا من نار وهولا شديدا أجنحة (٥) . وقال نبي الله صلىاللهعليهوآله : « والذي نفسي بيده لو دنا منّي لاختطفته الملائكة عضوا عضوا » فنزلت (٦) .
قال الفخر الرازي في وجه إظهار الله تعالى العجب من طغيان أبي جهل ومنعه الرسول صلىاللهعليهوآله عن
__________________
(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٧٤.
(٢) تفسير الرازي ٣٢ : ٢٠ ، تفسير أبي السعود ٩ : ١٧٨ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٤٧٤.
(٣) تفسير الرازي ٣٢ : ٢٠.
(٤) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٧٥.
(٥) في النسخة : واضحة ، والمراد أجنحة الملائكة ، تفسير روح البيان ١٠ : ٤٧٥.
(٦) مجمع البيان ١٠ : ٢٨٢ ، تفسير الصافي ٥ : ٣٤٩ ، تفسير الرازي ٣٢ : ٢٠ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٤٧٥.