أقول : ظاهر الرواية وقوع جميع التقديرات الكائنة في العالم إلى يوم القيامة في أول ليلة من ليالي القدر ، وهذا غير المعني المروي عن ابن عباس ، ولا منافاة بينهما.
وقيل : إنّ القدر هنا بمعنى الشرف ، ومعنى ليلة القدر أنّها ليلة يحصل لمن أحياها وقصد فيها الشرف والمنزلة عند الله (١) .
وقيل : لأنّه نزل فيها كتاب ذو قدر ، على لسان ملك ذي قدر ، لأنّه لها قدر (٢) .
وعن الخليل : القدر هنا بمعنى الضيق ، وإنّما سمّيت الليلة ليلة القدر لأنّ الأرض تضيق فيها بالملائكة (٣) .
وأمّا دلالة الآية على عظمة القرآن ، فلاسناد إنزاله إلى ذاته المعبّر عنها بنون العظمة المستلزم لعظمة ما أنزله ، ولارجاع الضمير إليه من غير سبق ذكره الدالّ على غاية اشتهاره وتميّزه من الكتب المنزلة ، ولتعظيم وقت نزوله وهو ليلة القدر بقوله : ﴿وَما أَدْراكَ﴾ وأيّ شيء أعلمك يا محمد ﴿ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾ في علوّ القدر والشرف ، فانّ العلم بها خارج عن طرق البشر إلّا بالوحي من الله العالم بكنه الأشياء وحقائقها.
﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣)﴾
ثمّ بيّن سبحانه فضيلة العبادة فيها بقوله : ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾ والعبادة فيها ﴿خَيْرٌ﴾ وأفضل ﴿مِنْ﴾ العبادة في ﴿أَلْفِ شَهْرٍ﴾ ليس فيها ليلة القدر في الحديث العامي : « من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر » (٤) .
قيل : إنّ لفظ ألف كناية عن الكثير ، ولم يرد حقيقتها (٥) .
وقيل : إنّ في الامم السابقة لا يقال لرجل : إنّه عابد ، حتّى يعبد الله ألف شهر ، فأعطى الله هذه الامّة ليلة من أحياها من المؤمنين كان أعبد من اولئك العبّاد (٦) .
وقيل كان ملك سليمان خمسمائة شهر ، وملك ذي القرنين خمسمائة شهر ، فجعل الله العمل في هذه الليلة خير من ملكهما (٧) .
__________________
(١) تفسير الرازي ٣٢ : ٢٨ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٤٨٢.
(٢) تفسير الرازي ٣٢ : ٢٨ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٤٨٢.
(٣) تفسير الرازي ٢ : ٢٨ ، ولم ينسبه إلى أحد ، تفسير الرازي ١٠ : ٤٨٢.
(٤) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٨٠.
(٥) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٨٣.
(٦) تفسير أبي السعود ٩ : ١٨٢ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٤٨٣.
(٧) تفسير أبي السعود ٩ : ١٨٣ ، تفسير روح البيان ١٠ : ٤٨٣.