وقيل : إنّ المراد أنّهم كانوا غير منفكّين عمّا كانوا عليه من الوعد باتباع الحقّ ، والايمان بالنبي صلىاللهعليهوآله المبعوث في آخر الزمان ، والعزم على إنجازه ، وهذا الوعد من أهل الكتاب ممّا لا ريب فيه حتى أنّهم كانوا يستفتحون ويقولون : اللهم افتح علينا ، وانصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان. ويقولون لأعدائهم من المشركين : قد أظلّ زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم ، وأمّا من المشركين فلعلّه قد وقع من متأخّريهم بعد ما شاع ذلك من أهل الكتاب واعتقدوا صحّته بما شاهدوا من نصرتهم على أسلافهم ، كما يشهد به أنّه كانوا يسألونهم عن الرسول ، هل هو المذكور في كتبهم (١) .
وعليه يكون ﴿تَأْتِيَهُمُ﴾ بمعنى ( أتتهم ) والتعبير بالمضارع باعتبار حال المحكي لا الحكاية ، وإنّما عبّر عن الرسول بالبيّنة للتنبيه على غاية ظهور أمره بسبب المعجزات الكثيرة الباهرة ، ومجموع الأخلاق الكريمة البالغة حدّ كمال الإعجاز ، فكأنّ صفاته عليهالسلام بيّنة على رسالته.
وقيل : إنّ المراد بالبينة مطلق الرسول ، والمراد حتى تأتيهم رسل من الملائكة تتلو عليهم صحفا مطهّرة ، كما قال سبحانه : ﴿يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ﴾(٢) وفيه : أنّه لا يناسب وصف الصحف بقوله : ﴿فِيها كُتُبٌ﴾ ومكتوبات ﴿قَيِّمَةٌ﴾ مستقيمة ناطقة بالصواب ، أو مستقلة بالحجّية والدلالة على الحقّ.
﴿وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ * وَما أُمِرُوا إِلاَّ
لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ
دِينُ الْقَيِّمَةِ (٤) و (٥)﴾
ثمّ إنه تعالى بعد حكايته وعد أهل الكتاب والمشركين بإيمانهم بالرسول الموعود واجتماع كلمتهم على الحقّ ، بيّن ازدياد كفرهم بعد وضوح رسالته لهم وافتراق كلمتهم بقوله : ﴿وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ﴾ عن الحقّ ، وما تباعدوا عن الايمان بالرسول الموعود مع كونهم من أهل العلم والاطلاع بالكتب وبأوصاف الرسول ﴿إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ﴾ بسبب انطباق الصفات المذكورة في التوراة والانجيل للنبي الموعود عليه وكثرة معجزاته ﴿الْبَيِّنَةُ﴾ والدلالة الواضحة على أنّ محمدا صلىاللهعليهوآله هو النبي الموعود بحيث لم يبق مجال للعاقل المنصف ردّها وجحودها.
وإنّما أفرد سبحانه أهل الكتاب بالذكر بعد الجمع بينهم وبين المشركين في أول السورة للدلالة
__________________
(١) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٨٦.
(٢) تفسير الرازي ٣٢ : ٤١ و٤٢ ، والآية من سورة النساء : ٤ / ١٥٣.