على كمال شناعة حالهم ، وأنّهم لمّا تفرّقوا مع كونهم من أهل العلم كان غيرهم أولى بذلك ؛ لأنّ جحود العالم أقبح وأشنع من إنكار الجاهل ، وفيه تسلية النبي صلىاللهعليهوآله حيث بيّن أنّ تفرّقهم ليس لقصور الحجة وخفاء الحقّ ، بل للعناد والعصبية. ﴿وَ﴾ الحال أنّهم ﴿ما أُمِرُوا﴾ بشيء في كتبهم ﴿إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ﴾ ولأجل أن يتذلّلوا له حال كونهم ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ﴾ تعالى ﴿الدِّينَ﴾ وممحضين أنفسهم له بالعبودية ، وآتين أعمالهم لصرف الداعية الالهية بحيث لا يكون في أعمالهم شائبة الشرك والرياء والعناد والعصبية والنفسانية.
وقيل : يعني موحّدين له في العبادة ، لا يعبدون معه غيره (١) ، وحال كونهم ﴿حُنَفاءَ﴾ ومعرضين عن كلّ باطل ، أو متّبعين ملّة إبراهيم الذي تبرأ من نفسه حين سلّمها للنيران ، أو مستقيمين في العقائد والأعمال والأخلاق ، أو مؤمنين بجميع الرسل ، أو حجاجا كما عن ابن عباس (٢) .
وقيل : إنّ اللام في قوله ﴿لِيَعْبُدُوا اللهَ﴾ بمعنى ( أن ) والمعنى إلّا أن يعبدوا الله (٣) .
وقيل : إنّ المراد وما امروا على لسان محمد صلىاللهعليهوآله إلّا أن يوحّدوا الله ويعبدوه عبادة خالصة من الشرك (٤)﴿وَ﴾ أن ﴿يُقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ التي هي أهمّ العبادات البدنية ﴿وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ﴾ التي هي أهمّ العبادات المالية.
﴿وَذلِكَ﴾ المذكور من الخلوص في عبادته وأداء الصلاة والزكاة هو ﴿دِينُ﴾ الملّة ﴿الْقَيِّمَةِ﴾ الباقية التي لا تنسخ ، أو المستقيمة التي لا عوج فيها. وقيل : إنّ القيّمة صفة للدين ، والتاء للمبالغة (٥) . وقيل : إنّ القيّمة اسم أو صفة للامة (٦) ، والمعنى دين الامة القائمة بالقسط. والحاصل أنّ الآية دالّة على أنّ الدين القيم مركّب من الاعتقاد الحقّ والعمل الصالح ، فعلى كلّ عاقل أن يقبله ولا يستنكف منه (٧) .
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها
أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ
الْبَرِيَّةِ (٦) و (٧)﴾
ثمّ ذكر سبحانه سوء حال الكفّار الذين لا يقبلون هذا الدين في الآخرة بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ﴾ من اليهود والنصارى ﴿وَالْمُشْرِكِينَ﴾ كعبدة الأصنام والأوثان والكواكب والنيران وغيرهم ، كلّهم يوم القيامة متمكّنون ﴿فِي نارِ جَهَنَّمَ﴾ حال كونهم ﴿خالِدِينَ﴾ ومقيمين ﴿فِيها﴾ أبدا
__________________
(١و٢) تفسير الرازي ٣٢ : ٤٦.
(٣) تفسير الرازي ٣٢ : ٤٤.
(٤) تفسير الرازي ٣٢ : ٤٣.
(٥) تفسير الرازي ٣٢ : ٤٧ ، وفيه : والهاء للمبالغة.
(٦) تفسير روح البيان ١٠ : ٤٨٨ و٤٨٩.
(٧) في النسخة : يقبلوه ولا يستنكفوا منه.