يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ ؟﴾ قال : « خلقهم ليفعلوا ما يستوجبون رحمته [فيرحمهم] » (١) .
تحقيق في الجمع بين الروايات
أقول : بعد ما بينا أنّ معرفة الله مستلزمة لعبادته ، وعبادته مستلزمة لاستحقاق رحمته ، والغرض من الخلق أن يستكملوا أنفسهم وتترقّى من حضيض الحيوانية إلى كمال الانسانية حتى تستأهل للرحمة الدائمة والفيوضات الأبدية ، صحّ أن يقال : خلقهم الله لمعرفته ولعبادته ، ولمّا كان حصول العبادة متوقّفا على أمر الله ونهيه ، وتعليمه كيفية عبادته ، كتوقّفه على معرفته ، صحّ أن يقال : خلقهم ليأمرهم بالعبادة ، للتنبيه على أنّ العبادة التي هي المقصودة من الخلق ، هي العبادة الاختيارية لا الجبرية والاضطرارية ، فظهر ممّا ذكر صحّة تعليل الخلق بكلّ من المعرفة والأمر بالعبادة ، والعبادة والرحمة ، ولمّا كان ظاهر الآية المباركة كون العبادة غاية الغايات ، بيّن سبحانه بقوله : ﴿وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ أنّ غاية الغايات نيلهم بالرحمة والنعم لا نفس العبادة ، ومن ذلك يصحّ إطلاق الناسخ على الآية الثانية ، كما ورد في حديث « أنّ الآية منسوخة بقوله : ﴿وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴾ » (٢) فلا تنافي بين الروايات.
﴿ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ
الْمَتِينُ * فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ *
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٥٧) و (٦٠)﴾
ثمّ لمّا كانت الآية موهمة لحاجته تعالى إلى عبادة خلقه ، صرّح سبحانه بأنّ الغرض استكمال الخلق لا استكمال نفسه بقوله : ﴿ما أُرِيدُ مِنْهُمْ﴾ شيئا ﴿مِنْ رِزْقٍ﴾ ومال يكتسبون لي لأنظم به أمور معيشتي ، كما يريد الموالي من عبيدهم ذلك ﴿وَما أُرِيدُ﴾ منهم أقلّ من ذلك ، مثل ﴿أَنْ﴾ يطبخوا لي طعاما ﴿يُطْعِمُونِ﴾ وحاصل مفاد الآية والله أعلم : إنّي لا اريد منهم مالا ارتزق به ، أو عملا أقضي به حاجتي ﴿إِنَّ اللهَ﴾ الذي هو خالق كلّ شيء ﴿هُوَ الرَّزَّاقُ﴾ لعباده ، فكيف يريد منهم الرزق وهو ﴿ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ﴾ والشديد على جميع خلقه ، فكيف يحتاج إلى عملهم له ؟
وإذا علم أنّ خلق الثقلين للعبادة ﴿فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ ولم يعتنوا بالغرض الذي خلقوا له ، ووضعوا عبادتهم في غير موضعها ، بأن عبدوا غير الله ، ووضعوا مكان تصديق النبي صلىاللهعليهوآله تكذيبه ، أو ضيّعوا
__________________
(١) علل الشرائع : ١٣ / ١٠ ، تفسير الصافي ٥ : ٧٥.
(٢) تفسير القمي ٢ : ٣٣١ ، تفسير الصافي ٥ : ٧٥ ، والآية من سورة هود : ١١ / ١١٨.