قلوبهم ، فانّهم (١)﴿مَنْ تَوَلَّى﴾ وأعرض بقلبه ﴿عَنْ ذِكْرِنا﴾ والمنبّهات النازلة منّا من القرآن الذي فيه تبيان كلّ شىء ، والبراهين المتقنة المثبتة للحقّ ﴿وَ﴾ ذلك لأنّه ﴿لَمْ يُرِدْ﴾ ولم يطلب ﴿إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا﴾ ومشتهياتها ، فأغفلته شدّة طلبها والانهماك في لذّاتها عن التفكّر في مآلها وتبعاتها ، والاعتقاد بعالم الآخرة ودار الجزاء ، ومن غفل عن الآخرة وترك التفكّر فيها ، لا يخاف العقوبة على سيئاته ، ولا يرجع عمّا هو عليه من الباطل ﴿ذلِكَ﴾ المذكور من حياة الدنيا وشهواتها المحسوسة ﴿مَبْلَغُهُمْ﴾ وحدّ ما وصلوا إليه ﴿مِنَ الْعِلْمِ﴾ والادراك ، لا يكاد يجاوزونه إلى المعقولات حتى ينفعهم التعليم والارشاد ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ﴾ خبثت طينته ، وقلّ عقله ، وساءت أخلاقه من كلّ عالم لو فرض وجوده ، ولذا ﴿ضَلَ﴾ وانحراف ﴿عَنْ﴾ دين الله الذي هو ﴿سَبِيلِهِ﴾ المؤدّي إلى قربه ورحمته ضلالا أبديا بحيث لا يرجى أن يرجع إليه ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ﴾ طابت طينته ، وتنوّر قلبه ، وانشرح صدره ، وحسنت اخلاقه ، ولذا ﴿اهْتَدى﴾ إلى دين الحقّ ، وسلك سبيلة ، ونال خير الدنيا والآخرة ، وفي تكرير قوله : ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ﴾ زيادة التقرير والايذان بتباين المعلومين.
قيل : إنّ معنى ( أعلم ) هنا العالم الذي لا عالم مثله (٢) ، وإنّما قدّم سبحانه بيان علمه بضلال الضالين ؛ لأنّ المقصود تهديدهم وتسلية النبي صلىاللهعليهوآله.
﴿وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا
وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى * الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ
وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ (٣١) و (٣٢)﴾
ثمّ لمّا لم يكن العلم بالضلال مرعبا إلّا مع القدرة على العقوبة ، بيّن سبحانه كمال قدرته بقوله : ﴿وَلِلَّهِ﴾ تعالى وحده ﴿ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ﴾ إيجادا وإعداما وتصرّفا ، ومن الواضح أنّه لم يكن خلقهما عبثا ، بل إنّما خلق جميع ذلك ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا﴾ السوء ﴿بِما عَمِلُوا﴾ في الدنيا. وقيل : إنّ التقدير بعقوبة ما عملوا (٣)﴿وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا﴾ وأطاعوا ربّهم ﴿بِالْحُسْنَى﴾ والمثوبة العظيمة ، وهي الجنّة والنّعم الدائمة. وقيل : يعني بالأعمال الحسنى (٤) .
ثمّ بيّن سبحانه المحسنين بقوله تعالى : ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ﴾ الأفعال التي تكون ﴿كَبائِرَ الْإِثْمِ﴾ وعظائم المعاصي من حين بلوغهم أو اسلامهم إلى الموت سواء كانت ترك الواجبات أو إتيان
__________________
(١) في النسخة : فان هم.
(٢) تفسير الرازي ٢٩ : ٣.
(٣) تفسير أبي السعود ٨ : ١٦١.
(٤) تفسير الرازي ٢٩ : ٦.