تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢)﴾
ثمّ قرر سبحانه علمه بأعمال عباده وأحوالهم بقوله : ﴿هُوَ﴾ تعالى ﴿أَعْلَمُ﴾ من كلّ أحد ﴿بِكُمْ﴾ أيّها الناس وبأحوالكم ﴿إِذْ أَنْشَأَكُمْ﴾ وحين خلقكم في ضمن خلق أبيكم آدم ﴿مِنَ﴾ تراب ﴿الْأَرْضِ﴾ ثمّ من نطفة ﴿وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ﴾ ووقت كونكم أولادا مستوزين ومتمكّنين ﴿فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ﴾ وظلمات أرحامهنّ على أطوار مختلفة ، فاذا كان الأمر كذلك ﴿فَلا تُزَكُّوا﴾ ولا تنزّهوا ﴿أَنْفُسَكُمْ﴾ من الضلالة والمعصية وذمائم الأخلاق ﴿هُوَ﴾ تعالى ﴿أَعْلَمُ﴾ من كلّ أحد ﴿بِمَنِ اتَّقى﴾ وأحترز من الضلالة والشرك والمعاصي قبل أن يخرجه من صلب آدم. قيل : كان ناس يعملون أعمالا حسنة ، ثمّ يقولون : صلاتنا وصيامنا وحجّنا ، فنزلت الآية (١) .
عن الباقر عليهالسلام في هذه الآية قال : « لا يفخر أحدكم بكثرة صلاته وصيامه وزكاته ونسكه ؛ لأنّ الله يقول : ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى ﴾ » (٢) .
وعن الصادق عليهالسلام أنّه سئل عنها فقال : « قول الانسان : صليت البارحة ، وصمت أمس ، ونحو هذا » ثمّ قال : « إنّ قوما يصبحون فيقولون : صلينا البارحة ، وصمنا أمس ، فقال عليّ : لكنّي أنام الليل والنهار ، ولو أجد بينهما شيئا لنمته » (٣) .
وعن أمير المؤمنين عليهالسلام : « لو لا ما نهى الله عنه من تزكية المرء نفسه لذكر ذاكر فضائل جمّة ، تعرفها قلوب المؤمنين ، وتمجّها آذان السامعين » (٤) .
قيل : لمّا نزل ﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى﴾ قال لنبيه صلىاللهعليهوآله : قد علم الله كونك ومن معك على الحقّ ، وكون المشركين على الباطل ، فأعرضوا (٥) عنهم ، ولا تقولوا : نحن على الحقّ وأنتم على الضلال ؛ لأنّهم يقابلونكم بمثل ذلك ، وفوّض الأمر إلى الله فانّه أعلم بمن اتقى ومن طغى (٦) .
﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٣) و (٣٤)﴾
ثمّ لمّا أمر سبحانه النبي صلىاللهعليهوآله بالتولّي عن المتولّين عن ذكره ، أظهر العجب من غاية شقاء بعض المتولّين عن ذكره بقوله : ﴿أَفَرَأَيْتَ﴾ يا محمد ، الكافر ﴿الَّذِي تَوَلَّى﴾ وأعرض عن ذكرنا حتى تتعجّب من أنّه كيف تولّى توليا فظيعا ، وأعرض إعراضا شنيعا ﴿وَأَعْطى﴾ شيئا ﴿قَلِيلاً﴾ من ماله
__________________
(١) تفسير أبي السعود ٨ : ١٦٢ ، تفسير روح البيان ٩ : ٢٤٤.
(٢) علل الشرائع : ٦١٠ / ٨١ ، تفسير الصافي ٥ : ٩٤.
(٣) معاني الأخبار : ٢٤٣ / ١ ، تفسير الصافي ٥ : ٩٤.
(٤) الاحتجاج : ١٧٧ ، تفسير الصافي ٥ : ٩٥.
(٥) في تفسير الرازي : فأعرض.
(٦) تفسير الرازي ٢٩ : ١٠.