وثاني القبلتين ، وهي مهبط الوحي والتنزيل ومحطّ أنظار المسلمين ، يتوجّهون شطرها ويحجّون إليها من كلّ حدب وصوب ، فلا عجب أن تهفوا إليها قلوب المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، فيرجون الله مخلصين أن يمنحهم التوفيق لزيارتها ، ويكتب لهم حجّ البيت فيها وزيارة قبر نبيّه (صلى الله عليه وآله) قبل أن يتوفّاهم الله ويفارقون هذه الحياة الدنيا.
ولم تكن رحلة الحجّ في الفترة التي ندرسها سهلة يسيرة على المسلمين بالشكل التي هي عليه اليوم ، فقد كانت حرارة الشمس الحارقة تصهر الأجساد الآدمية في وهاد الحجاز القاحلة ، وكان على الحجّاج أن يتلاءموا مع برودة ليل الصحراء ، وكان عليهم أن يقاسوا آلام الجوع وكظّة العطش وهم يلهجون بصوت جهير دون توقّف : «لبّيك اللهمّ لبّيك».
كان موكب الحجيج يشقّ طريقه الصحراوي بمهابة ، وكانت القوافل تسير بجمالها الملفوفة بالسجّاد ، وكانت النساء على الجمال يهلّلن على طول الطريق ، وكذا كان يفعل الرجال الذين كانوا يقودون الجمال(١).
وكان الخوف يسيطر على الحجّاج وهم يترقّبون الهجمات التي يشنّها الأعراب ، وكثيراً ما لاتقتصر هذه الهجمات على السرقة والنهب ، إذ يسقط فيها ضحايا كثر ، ومن كان ينجو من القتل تتربّص به الصحراء بقسوتها ، فيموت وهو يحاول الفرار عطشاً ، والمحظوظ من تكتب له النجاة في هذه التجربة المهلكة.
__________________
(١) مكّة المكرّمة في عيون رحّالة نصارى : ٩٦.