إلّا أنّ الدقّة في مجموع كلام المقرّر من الصدر إلى الذيل لعلّها ترشد إلى أنّ مقصوده ليس تخصيص الوجوب بالمقدّمة المأتيّ بها بقصد التوصّل ، بل مقصوده تنقيح ما ذكرناه سابقا في مسألة الطهارات الثلاث من أنّ عباديّة المقدّمات ووقوعها امتثالا إنّما تتحقّق بإتيانها بداعي الأمر النفسيّ المتعلّق بذيها وبقصد التوصّل بها إليه ، لا بقصد أمرها الغيريّ الترشّحيّ. وبالجملة ، ليس مقصوده دخالة قصد التوصّل في وقوع المقدّمة على صفة الوجوب ، وإنّما المقصود دخالة ذلك في وقوعها امتثالا للأمر ومقرّبا إلى ساحة المولى كما في الطهارات الثلاث (١).
وكيف كان ، يمكن توجيه القول باعتبار قصد التوصّل في مصداقيّة المقدّمة للواجب بأنّ ذلك من جهة أمرين : أحدهما :
رجوع الحيثيّات التعليليّة إلى الحيثيّات التقيّديّة في الأحكام العقليّة. ومقتضاه هو أنّ الواجب بحكم العقل هو التوصّل لا الشيء لغاية التوصّل.
والآخر : أنّ التوصّل إذا كان بعنوانه واجبا ، فما لم يصدر هذا العنوان عن قصد واختيار لا يقع مصداقا للواجب ، وإن حصل منه الغرض مع عدم القصد والعمد إليه.
أورد المحقّق الأصفهانيّ على الأوّل بأنّ الأحكام العقليّة على قسمين : أحدهما : العمليّة ومباديها هو بناء العقلاء على الحسن والقبح ومدح فاعل بعض الأفعال وذمّ فاعل بعضها الآخر. وموضوع الحسن مثلا هو التأديب لا الضرب لغاية التأديب ، إذ ليس هناك بعث من العقلاء لغاية ، بل مجرّد بنائهم على المدح والممدوح هو التأديب.
وثانيهما : النظريّة لا تتكفّل فيه إلّا الإذعان بالواقع. (والمقام من قبيل الثاني) ، إذ من الواضح أنّ العقل لا يتكفّل فيه إلّا الإذعان بالواقع. ومن الواضح أنّ الإرادة التشريعيّة على طبق الإرادة التكوينيّة ؛ فكما أنّ الإنسان إذ أراد شراء اللّحم يريد المشي إلى السوق ، والأوّل لغرض مترتّب على الشراء والثاني لغرض مترتّب على المشي إلى السوق ، كذلك إذا وقع الأمران طرفا للإرادة التشريعيّة ، فإنّ المولى لا يريد
__________________
(١) نهاية الاصول : ١ / ١٩٢.