الكلام ، وهو في المعنى مُؤخّر ، وتُأخّرُهُ ، وهو في المعنى مُقَدَّم سنّة جارية(١) ، وهو دليلٌ على عدم جمود اللغة واحتباسها تحت قيد الرتابة ، بل إنَّ التقديم والتأخير علامة على حيويَّة اللُّغة وسعتها في طرائق التعبير ، حتّى عَدَّ ابن جنّي (٣٩٢ هـ) ذلك من شجاعة العربية(٢) ، ويراه عبد القاهر الجرجاني (ت٤٧١ هـ) ذا فوائدَ كثيرة ، ومحاسن جمَّة ، فيه سَعَةُ التصرُّف ، وأنَّ سَبَبَ ما رَاقَ في الكلام من مَسْمَع ، وَلَطُفَ من موقع ، هو ما قُدِّم فيه شيءٌ ، وحَلَّ فيه لفظٌ من مكان إلى مكان آخر(٣) ، وهو دليلُ الفصاحة ، ومَلَكَة البيان ، وهو ـ بعدُ ـ «أَحَد أَسَالِيبِ الْبَلاَغَةِ ، فَإِنَّهُمْ أَتَوْا بِهِ دَلاَلَةً على تَمَكُّنِهِمْ في الْفَصَاحَةِ وَمَلَكَتِهِمْ في الْكَلاَمِ وَانْقِيَادِهِ لَهُمْ وَلَهُ فِي الْقُلُوبِ أَحْسَنُ مَوْقِع وَأَعْذَبُ مَذَاق»(٤).
ومازال موضوع التقديم والتأخير محطّ عناية العلماء كلّ بحسب اختصاصه ؛ لذلك نرى أنَّ النحويّين قد وضعوا لكلّ جزء من الكلام رتبة خاصّة به ، فالأصل في الجملة الاسمية أنْ تُقدَّم رتبة المبتدأ ، وتؤخَّر رتبة الخبر ، أمَّا الجملة الفعلية ، فرُتْبَةُ الفعل فيها يجب أنْ تكون أوّلاً ، ثمّ تليها رتبةُ الفاعل ، ورتبةُ المفعول يجب أن تكون آخراً ، ومن غنى العربية امتلاكها وسائل حفظها التي تضمن لها سلامتها ، وإنْ حدث ما يطرأ على نظامها ،
__________________
(١) ينظر : فهم القرآن ومعانيه : ٢٥٩ ، والصاحبي في فقه اللغة : ١٨٩.
(٢) ينظر : الخصائص ٢ / ٣٦٢.
(٣) ينظر : دلائل الإعجاز ١ / ١٠٦.
(٤) البرهان في علوم القرآن ٣ / ٢٣٣.