ومن سلك سبيلهم من أهل الاستقامة ، فهذا كان كافيا لمن يريد تحصيل السلامة وسعادة الدنيا ويوم القيامة .
وأمّا حفظ الألفاظ الحادثة بين المتكلّمين ، وما ذكروا أنّه صفات المتجادلين ، فهو شغل من فرغ من فروض اللّه جلّ جلاله المتعيّنة المتضيّقة عليه ، ويريد أن يخدم اللّه جلّ جلاله خالصا لوجهه بالردّ على أهل الضلال من الأمم الحائلة بين عباده تعالى جلّ جلاله وبين المعرفة [ به ] والوصول إليه ، ويكون حامل هذا العلم العريض العميق لازما سبيل التوفيق ، ويناظر مخالفيه مناظرة الرحيم الشفيق ، حتى يسلم من خطر الطريق ، وإلّا فهو هالك على التحقيق .
ثمّ قال : إنّني ما منعت من النظر ، بل النظر واجب على المكلّف في كل ما يجب عليه فيه نظره ممّا لا يدركه إلّا بالنظر والتكشيف .
فأقول : لو فرضنا أنّ عبدا من عباد اللّه تعالى ما جعل له في فطرته الأوليّة أنّ الأثر دالّ على مؤثره بالكليّة ، ولا نبّهه بعد بلوغه وكمال عقله على معرفته ، ولا على ما يجب عليه من المعارف بشيء من ابتداء فضله ورحمته ، فإنّه يجب على هذا العبد النظر فيما يجب عليه من التكليف ، والتوسل (١) في التعريف بكلّ طريق من طريق التحقيق ، وعلى كلّ وجه وسبيل من سبل التوفيق ، ومتى وصل إلى غاية هداه على صانع لوجوده فإياه أن يصرف هذا الناظر خاطره ، أو يخلي سرائره من الاعتماد على مراحم ومكارم صانعه وجوده ، فإنّ القادر بذاته يفتح إذا شاء على قدر قدرته الباهرة ، والعبد الناظر القادر بغيره لا يفتح بنفسه إلّا بقدر قدرته القاصرة ، وذلك الفتوح الإلهي أقوى اتصالا ، وأبقى كمالا ، وأتمّ نورا ، وأعمّ سرورا ، وأوسع في الاطّلاع على الأسرار ، وأرجح في عمارة الأفكار .
قال : ومتى اشتبه عليك شيء من نتائج العقول ، فالزم الصوم والخلوة والتذلّل للقادر على كلّ مأمول فإنّك تجده جلّ جلاله كاشفا لك ما اشتبه عليك ، وباعثا إلى عقلك وقلبك من أنوار هدايته ما يفتح أبواب الصواب لديك ، وإيّاك أن تستبطئ إجابته ، وأن تتّهم رحمته ، فإنّ العبد ما يخلو من تقصير في مراقبة مولاه ، ويكفيه أنّه يغضب لنفسه ولمن يعزّ عليه أكثر ممّا يغضب للّه جلّ جلاله المحسن إليه ، ويكفيه أنّه ما هو راض بتدبير مالكه جلّ جلاله بالكليّة ، وأنّه يعارضه بخاطره وعقله وقلبه معارضة المماثل والشريك ، أو العبد السيئ العبودية .
وإذا تأخرت عنك إجابة الدعاء وبلوغ الرجاء فابك على نفسك بكاء من يعرف أنّ الذنب
______
( ١ ) ـ في « ر » وكشف المحجة : والتوصّل .