ثمّ اجتمع عندي من أشار إليّ أن أكون حاكما بين المختلفين على عادة الفقهاء والعلماء من السلف الماضين ، ومصلحا لأمور المتحاكمين ، فقلت لهم : إنّني وجدت عقلي يريد صلاحي بالكليّة ، ونفسي والشيطان وهواي يريدون هلاكي بالاشتغال بالأمور الدنيويّة ، وأنا قد دخلت بين عقلي ونفسي والشيطان وهواي على أن أحكم بينهم بمجرّد العدل ، ويتّفقون كلّهم مع العدل (١) فلم يوافقوا على الدوام على صواب هذه الأحكام ، وقال لسان حال العقل : أنّه لا يجوز أن يكون تبعا لهم على الهلاك والجهل . وما تهيّأ لي في عمر طويل أن أحكم بين هذين الخصمين ، أو أصالح بينهم مصالحة تقرّبها العين ، وتنقطع معها المنازعات والمخالفات ، فمن عرف من نفسه ضعفه عن حكومة واحدة مدة من الأوقات كيف يقدم على الدخول فيما لا يحصى من الحكومات ؟
وقلت لهم : انظروا من قد اتفق عقله ونفسه وطبعه وهواه وقوى على الشيطان ، وصاروا كلّهم يدا واحدة في طلب طاعة اللّه ورضاه ، وتفرّغ من مهماته المتعيّنة عليه فتحاكموا عنده ، فإنّه يكون قادرا بتلك القوّة على فصل المحاكمات والمصالحات إذا حضر الخصوم بين يديه ، فاعتزلت يا ولدي محمد عن رئاسة هذا الباب ورأيت في اللّه جلّ جلاله ونفسي شغل شاغل بمقتضى حكم الألباب » (٢) .
ثمّ ذكر رحمه اللّه تكليف والده إياه لتزويجه وإباءه عنه مدّة ، ثم إيثاره له بالاستخارة وتزويجه ببنت الوزير ناصر بن مهدي واستيطانه بغداد ، وتكليف الخليفة المستنصر إيّاه لقبول المناصب وإباءه عنها ، وتكريره ذلك وامتناعه مرّة بعد أخرى ، والحجج التي جرت بينهما ذلك حتى استناد الخليفة بما صدر من السيّدين الرضى والمرتضى في ذلك وجواب السيّد عن ذلك إلى غير ذلك في فصول مبسوطة ، ثمّ عاد إلى نصيحة الولد وتحذيره عن الدخول في شيء من هزل الفتوّة الدنيويّة ، ولعب أهل الدنيا وقواعدهم الرديّة وبدعهم المخالفة لسيّد المرسلين صلّى اللّه عليه وآله والمبالغة في ذلك ، ومذمّة الدخول مع الولاة ، واعتقاد شرف ذلك غاية الذم ، وأنّه لو عرض له عمره كله من الجنون والبرص والجذام كان أسهل من الابتلاء بذلك وبيان ذلك بوجه وجيه ، ثمّ ذكر حديث اعتزاله من الحلة تارة إلى مشهد أمير المؤمنين عليه السلام ، وتارة إلى مشهد الحسين عليه السلام ، وتارة إلى سرّ من رأى ، ليكون أبلغ في العزلة بالكليّة ، لأنّه أبعد عن بلاده ومعارفه ، وكأنّه صومعة في بريّة .
قال : « واعلم يا ولدي محمد انّ أصل ما أنت فيه أن تكون ذاكرا أنّك بين يدي اللّه،
______
( ١ ) ـ في « ر » و « ح » وكشف المحجة : العقل ، والظاهر أنّه تصحيف ، صوابه ما أثبتناه في المتن .
( ٢ ) ـ كشف المحجة : ١١٠ .