و روى العامّة أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «لو أهدي إليّ ذراع لقبلت، و لو دعيت إلى كراع لأجبت»(١).
و كان عليه السّلام يأمر بالهديّة صلة بين الناس، قال عليه السّلام: «تهادوا تحابّوا»(٢).
و قال عليه السّلام: «تهادوا فإنّ الهديّة تذهب الضغائن»(٣).
و من طريق الخاصّة: ما رواه ابن بابويه عن الصادق عليه السّلام أنّه قال:
«تهادوا تحابّوا»(٤).
و عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: لو دعيت إلى ذراع(٥) لأجبت، و لو أهدي إليّ كراع لقبلت»(٦).
و قال عليه السّلام: «عد من لا يعودك، و اهد لمن لا يهدي إليك»(٧).
و قال الصادق عليه السّلام: «الهديّة ثلاثة: هديّة مكافأة، و هديّة مصانعة، و هديّة للّه عزّ و جلّ»(٨).
و قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «لإن أهدي لأخي المسلم هديّة تنفعه أحبّ٣.
١- المصنّف - لابن أبي شيبة - ٢٠٢٨/٥٥٦:٦، مسند أحمد ٩٨٥٥/٢٥٤:٣، صحيح البخاري ٢٠١:٣، و ٣٢:٧، السنن الكبرى - للبيهقي - ١٦٩:٦، و ٧: ٢٧٣.
٢- الموطّأ ١٦/٩٠٨:٢، الأدب المفرد - للبخاري -: ٥٩٤/٢٠٥، مسند أبي يعلى ٦١٤٨/٩:١١، المعجم الأوسط - للطبراني - ٧٢٤٠/٢٣٤:٧، مسند الشهاب ١: ٦٥٧/٣٨١، السنن الكبرى - للبيهقي - ١٦٩:٦، تاريخ مدينة دمشق ٢٢٥:٦١ و ٢٢٧.
٣- أورده الرافعي في العزيز شرح الوجيز ٣٠٦:٦.
٤- الفقيه ٨٥٨/١٩٠:٣.
٥- في المصدر: «كراع» بدل «ذراع».
٦- الفقيه ٨٦١/١٩١:٣.
٧- الفقيه ٨٦٧/١٩١:٣.
٨- الفقيه ٨٦٨/١٩١:٣.
إليّ من أن أتصدّق بمثلها»(١).
و قد أجمع المسلمون كافّة على استحبابها.
و لا ينبغي أن يستخفّ القليل فيمتنع من إهدائه، و لا ينبغي للمهدى إليه الاستنكاف من قبوله؛ لما في ذلك من جبر القلب و حصول المؤانسة.
تنبيه: الهبة هي العقد المقتضي تمليك العين من غير عوض تمليكا منجّزا مجرّدا عن القربة، و يعبّر عنها بالنحلة أيضا، فقولنا: «العقد» جنس بعيد شامل لجميع العقود، و قولنا: «المقتضي تمليك العين» يخرج منه الإجارة و العارية، فإنّ الإجارة تقتضي تمليك المنافع لا تمليك العين، و العارية تقتضي إباحة المنافع لا تمليكها، و قولنا: «من غير عوض» يخرج عنه البيع، فإنّه يقتضي تمليك العين لكن مع العوض، و يزيد أنّ العوض لا يكون لازما، لا انتفاء العوض ليدخل في الحدّ الهبة المعوّض عنها، و التنجيز لإتمام الحدّ، و التجرّد عن القربة ليخرج الصدقة.٥.
١- الكافي ١٢/١٤٤:٥.
الفصل الأوّل: في الأركان و مباحثه ثلاثة:
البحث الأوّل: في صيغة الهبة
اشارة
البحث الأوّل: في صيغة الهبة(١).
الهبة عقد يفتقر إلى الإيجاب و القبول باللفظ، كالبيع و سائر التمليكات.
و أمّا الهديّة فذهب قوم من العامّة إلى أنّه لا حاجة فيها إلى الإيجاب و القبول اللفظيّين، بل البعث من جهة المهدي كالإيجاب، و القبض من جهة المهدى إليه كالقبول؛ لأنّ الهدايا كانت تحمل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من كسرى و قيصر و سائر الملوك فيقبلها و لا لفظ هناك، و استمرّ الحال من عهده عليه السّلام إلى هذا الوقت في سائر الأصقاع، و لهذا كانوا يبعثون على أيدي الصبيان الذين لا يعتدّ بعبارتهم(٢).
و منهم من اعتبرهما، كما في الهبة و الوصيّة، و اعتذروا عمّا تقدّم بأنّ ذلك كان إباحة لا تمليكا(٣).
و أجيب: بأنّه لو كان كذلك لما تصرّفوا فيه تصرّف الملاّك، و معلوم أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يتصرّف فيه و يملّكه غيره(٤).
١- في النّسخ الخطّيّة: «الصيغة» بدل «صيغة الهبة».
٢- الحاوي الكبير ٥٣٧:٧، الوسيط ٢٦٥:٤، حلية العلماء ٥٠:٦-٥١، التهذيب - للبغوي - ٥٤٣:٤-٥٤٤، البيان ٩٦:٨، العزيز شرح الوجيز ٣٠٧:٦ - ٣٠٨، روضة الطالبين ٤٢٨:٤، المغني ٢٨٣:٦، الشرح الكبير ٢٧٥:٦.
٣- العزيز شرح الوجيز ٣٠٨:٦، روضة الطالبين ٤٢٨:٤.
٤- العزيز شرح الوجيز ٣٠٨:٦، روضة الطالبين ٤٢٨:٤، و راجع: الهامش (٥) من ص ١١، و الهامش (١ و ٢) من ص ١٢.
و الصدقة كالهديّة في ذلك بلا فصل.
و يمكن الاكتفاء في هدايا الأطعمة بالإرسال و الأخذ من غير لفظ الإيجاب و القبول؛ جريا على المعتاد بين الناس.
و التحقيق: مساواة غير الأطعمة لها، فإنّ الهديّة قد تكون غير طعام، فإنّه قد اشتهر هدايا الثياب و الدوابّ من الملوك إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أنّ مارية القبطيّة أمّ ولده كانت من الهدايا(١).
و قال بعض الحنابلة: لا تفتقر الهبة إلى عقد، بل المعاطاة و الأفعال الدالّة على الإيجاب و القبول كافية، و لا يحتاج إلى لفظ؛ لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يهدي و يهدى إليه، و يفرّق الصدقة، و يأمر سعاته بتفرقتها، و لم ينقل في ذلك إيجاب و لا قبول، و لو كان شرطا لأمر به، و لأنّه لا خلاف بين العلماء أنّ تقديم الطعام بين يدي الضّيفان إذن في الأكل، و أنّه لا يحتاج إلى قبول(٢).
مسألة ٢: الإيجاب هنا كلّ لفظ يقصد به تمليك العين بغير عوض،
و الصريح فيه: و هبتك، و ملّكتك، و أهديت لك، و أعطيتك، و هذا لك، و لا بدّ فيه من لفظ صريح، و لا تكفي الكنايات فيه، كالبيع؛ عملا بالاستصحاب.
و القبول كلّ لفظ يدلّ على الرضا بالتمليك، كقوله: قبلت، و رضيت، و ما يشابهه.
١- السيرة النبويّة - لابن هشام - ٢٠٢:١، الطبقات الكبرى - لابن سعد - ٢١٤:٨، مروج الذهب ١٤٩٢/٢٩:٣، أسد الغابة ٢٦١:٦، المستدرك - للحاكم - ٣٨:٤ و ٣٩، السنن الكبرى - للبيهقي - ٢١٥:٩، العزيز شرح الوجيز ٣٠٨:٦.
٢- المغني ٢٨٣:٦-٢٨٤، الشرح الكبير ٢٧٥:٦-٢٧٦.
و لا بدّ و أن يكون العقد منجّزا، فلو علّقه على شرط لم يصح، كالبيع.
و يجب أن يكون القبول عقيب الإيجاب، فلا يجوز تأخيره عنه، بل يعتبر التواصل، كما في البيع، و ليتمّ القبول جوابا لذلك الإيجاب.
و ذكر بعض الشافعيّة أنّه يجوز تأخير القبول عن الإيجاب، كما في الوصيّة(١).
و هذا الخلاف حكاه أكثر الشافعيّة في الهبة(٢).
و خصّصه بعضهم بالهديّة؛ لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أهدى إلى النجاشي(٣) ، و لا يزال الناس يفعلون ذلك، و منع من التأخير في الهديّة جزما، و فعل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و غيره إباحة لا هبة، و القياس: التسوية بينهما(٤).
ثمّ في الهدايا التي يبعث بها من موضع إلى آخر إن اعتبرنا اللفظ و فوريّة القبول وكّل المهدي الرسول ليوجب و يقبل المهدى إليه، أو يوجب المهدي و يقبل المهدى إليه عند الوصول إليه.
و المشهور: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يتصرّف في الهبة(٥) ، و لم ينقل في١.
١- العزيز شرح الوجيز ٣٠٩:٦، روضة الطالبين ٤٢٨:٤.
٢- كما في العزيز شرح الوجيز ٣٠٩:٦، و روضة الطالبين ٤٢٨:٤.
٣- الطبقات الكبرى - لابن سعد - ٩٥:٨، مسند أحمد ٢٦٧٣٢/٥٥٢:٧، المعجم الكبير - للطبراني - ٢٠٥/٨١:٢٥، المستدرك - للحاكم - ١٨٨:٢، السنن الكبرى - للبيهقي - ٢٦:٦، صحيح ابن حبّان - بترتيب ابن بلبان - ٥١٥:١١ - ٥١١٤/٥١٦.
٤- العزيز شرح الوجيز ٣٠٩:٦، روضة الطالبين ٤٢٨:٤.
٥- مسند أحمد ٩٠١١/١٢٤:٣، و ١٠٠٠٣/٢٧٧، صحيح البخاري ١٠٥:١، و ٢٠٣:٣، صحيح مسلم ١٠٧٧/٧٥٦:٢، و ٢٠٧٥/١٦٤٦:٣، المعجم الكبير - للطبراني - ١٠٠٨/٤١٧:١٩ و ١٠٠٩، السنن الكبرى - للبيهقي - ١٨٥:٦، تاريخ مدينة دمشق ٣٩١:٢١.
شيء منه أنّه أوجب له الرسول و قبل منه، و كذا ما يفعله الناس.
و قوله: «إنّه إباحة» ليس بصحيح؛ لأنّهم أجمعوا على تسميتها هديّة و هبة، و لا يسمّونها إباحة، و لأنّ الإباحة تختصّ بالمباح له، و قد كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إذا أهدي إليه شيء يهديه لزوجاته و غيرهنّ(١) ، و قد أهدي له حلّة فأهداها لعليّ عليه السّلام(٢).
مسألة ٣: و يشترط في المتعاقدين الكماليّة،
فلا يصحّ العقد إلاّ من بالغ كامل العقل جائز التصرّف.
و يقبل عن الطفل وليّه إمّا الأب أو الجدّ أو غيرهما.
و إن كان الواهب هو الوليّ، فإن كان أبا أو جدّا تولّى الطرفين، و إن كان غيرهما من حاكم أو وصيّ أو وليّ حاكم فكذلك على الأقوى.
و يحتمل أن يقبل الحاكم أو نائبه.
و لا يكفي في العقد الإيجاب منفردا عن القبول، بل لا بدّ منهما، كالبيع، و هو أحد وجهي الشافعيّة، و الثاني: أنّه يكفي الإيجاب عنه، و لا يكفي القبول مجرّدا عن الإيجاب(٣).
و للشافعيّة وجه: أنّه يكفي إذا جاء بلفظ مستقلّ، مثل أن يقول:
اشتريت لطفلي كذا، أو اتّهبت له كذا، و لا يكفي قوله: قبلت البيع أو
١- الطبقات الكبرى - لابن سعد - ١٨٨:٨، سنن الدارمي ١٠٤:٢.
٢- المصنّف - لابن أبي شيبة - ١٥٨:٨-٤٦٩٩/١٥٩، مسند أحمد ١: ٧٠٠/١٤٦، و ١١٧٥/٢٢٤، صحيح مسلم ١٦٤٤:٣، ح ٢٠٧١ و ذيله، سنن ابن ماجة ٣٥٩٦/١١٨٩:٢، سنن أبي داود ٤٠٤٣/٤٧:٤، سنن النسائي (المجتبى) ١٩٧:٨، السنن الكبرى - للنسائي - ٩٥٦٦/٤٦١:٥-١، السنن الكبرى - للبيهقي - ٤٢٤:٢ و ٤٢٥.
٣- البيان ١٠٥:٨، العزيز شرح الوجيز ٣٠٩:٦، روضة الطالبين ٤٢٩:٤.