فيه إلّا الّذين اوتوه من بعد ما جاءهم العلم ، (١) فجعل كلّ هذه خلافات ، وعدّت جميعها أقوالات ، مع أنّ هذه كلّها ـ غير القسم الأوّل ـ لا تعدّ عند العقلاء شيئا ، كيف ؟ ولو عدّت أمثال هذه الأشياء خلافا ، لما بقي شيء متّفق عليه حتّى أبده البديهيّات كضوء الشمس ، فإنّه قد ينكره الذي في عينه رمد ، وكذلك الذي في قلبه مرض ينكر حقائق محكمة ، ويتّبع طرائق مظلمة ، بل الذي في قلبه مرض أعظم داء ، وأبعد شفاء ؛ لأنّ مرض الجوارح ربّما يعترف به صاحبه ولا يزيده شيئا ، ومرض القلوب لا يعترف به صاحبه ، ويزيده وعرا وإعضالا وزيغا وإضلالا حتّى يجعل صدره ضيّقا حرجا كأنّما يصّعّد في السماء.
وأمّا صاحب القلب السليم ، والناظر بعين الإنصاف والرأي المستقيم ، فهداه الله لما اختلفوا فيه من الحقّ بإذنه ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
الثالثة : قد كثر في هذا العلم في جميع أبوابه التعرّض والبحث عن أشياء لا تليق بالتعرّض ، ولا يمكن البحث عنها لكونها بديهيّات تعرّضا مجاوزا عن الحدّ ، لا سيّما في باب الحدود والتعريفات ، كالتعرّض لتعريف كتاب الله وأمثاله ، وكالتعرّض لتحقيق معنى الواجب المخيّر والكفائي والموسّع وأمثاله.
ومن البيّن أنّ استخفاء البديهيّات والإغماض عن نور بداهتها ثمّ البحث عن أحوالها والتعرّض لتحديدها من الحماقة البيّنة ؛ لأنّهما مختصّان بالنظريّات الخفيّة ، ولا يجاوزان إلى البديهيّات الجليّة ، ولهذا لا يزداد صاحبه إلّا حيرة وإشكالا ، وظلمة وضلالا ، كمن أغمض عينه عن ضوء النهار والشمس ، ومشى بظلمة وهمه وخياله باللمس والهمس ، (٢) وكذلك قد يتعرّض لأشياء لا مدخل لها في هذا العلم أصلا ، أو لها مدخل ولكنّه قد بحث عن أحوالها في علوم أخر موضوعة لأجلها ؛ وكذلك
__________________
(١) إشارة إلى الآية ٢١٣ من سورة البقرة.
(٢) الهمس : الخفيّ من الصوت. لسان العرب ، ج ٦ ، ص ٢٥٠ ( همس ) .