وتصديق الرجال من غير تعقّل ، واتّباع الأقوال من دون تأمّل ، بل ابدأ أوّلا بالاستعانة بإلهك ، والرغبة إليه في توفيقك ، ثمّ تأمّل فيما تريده حقّ تأمّلك بعد أن تجد أهليّة التأمّل من نفسك ، فإن وجدته صحيحا فاقبله وإن كان من الأذلّاء ، وإن وجدته سقيما فاردده وإن كان من الأجلّاء ، فإنّ كلامهم إذا كان صوابا كان دواء ، وإذا كان خطاء كان داء ، واحذر عن (١) التنازع والشقاق ، والزيغ والانعماق ممّا أشرت لك في التنبيهات الاول الثلاثة ، فقد ورد : « إنّ من تعمّق لم ينل (٢) إلى الحقّ ، ومن كثر نزاعه دام عماه عن الحقّ ، ومن زاغ ساءت عنده الحسنة وحسنت عنده السيّئة ، وسكر سكر الضلالة ، ومن شاقّ وعرت عليه طرقه ، وأعضل عليه أمره ، وضاق مخرجه » . (٣)
واعلم : أنّك خلقت للآخرة لا للدنيا ، وللفناء لا للبقاء ، وللعمل لا للأمل ، فابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ، ولا تنس نصيبك من الدنيا ، وأحسن إلى نفسك كما أحسن الله إليك ، ولا تصرف عمرك فيما يفارقك ولا يجامعك ، وينقطع عنك ولا يشايعك ، ويضرّك ولا ينفعك ، ويضلّك ولا يهديك ، وإلى شيء من منافعك لا يؤدّيك ، كجمع الكتب واستكثارها ، واستكتاب الحواشي واستفسارها ، وإصلاح ظاهرك وأمثالها ممّا أنت أعلم به لاشتغالك بأعمالها ، ولا يغويك الاستطالة في المجادلات ، والتفاخر في المكالمات ، والتفوّق في الاجتماعات ، وطلب الدرجات ، والميل إلى التفضيلات ، فإنّ الآخرة أكبر درجات ، وأكبر تفضيلا.
ولا يحملنّك على الخوض في الشبهات والتورّط في الظلمات قول فلان محقّق مدقّق ، (٤) ولا يوهننّك عمّا أنت فيه قول فلان صاف صادق ؛ فإنّ اشتهارك في الملأ الأعلى أحسن منه في الملأ الدنيا ، وعلم ربّك بحالك خير من علمهم بقالك ، ورضا
__________________
(١) الف : ـ عن.
(٢) نهج البلاغة : لم ينب. وفى روضة الواعظين : لم ينسب.
(٣) نهج البلاغة : ص ٤٧٣ ، ضمن الحكمة : ٣١ ؛ روضة الواعظين ، ج ١ ، ص ٤٣.
(٤) كذا. والصحيح المحقّق والمدقّق ؛ لكون « فلان » بمنزلة العلم. وكذا ما يأتي.