واوصيك ألّا تصادق أحدا إلّا بعد الاختبار ، ولا تناصح أحدا إلّا بعد الاستفسار ، ولا تتمسّك بكلّ شيء قبل الاستبصار ، فإنّ الشيطان قد يتلبّس بالإنسان ، والظالم بالعالم ، والمجرم بالمحرم ، والبور بالنور ، والسنّور بالسمور.
وليكن آخر كلامي أن أقول لك : ﴿ وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ ، (١) ولا تكن كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون. (٢) فإن وجدت في قلبك خشوعا ممّا قلت ، وفي رأيك قبولا لما ذكرت ، وإلّا فاعلم أنّك لفي ضلالك القديم ، وأنّي نفخت بمزمار الموعظة عند أهل القبور ، وضربت بدفّ النصيحة عند أهل الاستبداد والزور ، ودققت بطبل التذكرة عند من لا يتذكّر إلّا يوم ينفخ في الصور ، فالصواب سكوني عن حركتي ، وسكوتي عن موعظتي ، فإنّ هذا قباء لم يخط بقدّ كلّ ذي قدّ ، وعطاء لم يجده كلّ ذي جدّ ﴿ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ﴾(٣) ومن طلبه فعليه بالنور المستور ، في رقّ منشور ، فإنّ فيه لبلاغا لقوم عابدين ، وهذا أو ان اختتام المقدّمة.
ولكن لمّا وجدت بعد مجالا ، ختمتها بمنارين :
المنار الأوّل : اعلم أنّي وجدت ما قيل في هذا العلم على أقسام ثلاثة : اصول ، وفضول ، ولا معقول. ولمّا لم يكن اصولها خالية عن الخلاف ، وكان رفعه ممكنا في أكثر المواضع على ما يرتضيه أهل الإنصاف ، جمعت بين أقوالها ، ورفعت من البين خلافها مع أنّ فريقا من المؤمنين لكارهون.
وسمّيت اصولها بالنخبة ، وجمع أقوالها بالمحاكمة ، وفضولها ولا معقولها بالبالوعة ، واقتصرت في هذا الكتاب بذكر نخباتها ومحاكماتها ، (٤) وأحلت ما سواهما على موضعهما ، فمن اقتصر على قدر حاجته وتكليفه ، فليواثر نخباته ، ومن أراد إصلاح ذات البين ، فلينظر في محاكماته ، ومن عمره طويل وله صكّ من ربّ جليل
__________________
(١) يونس (١٠) : ١٠٦.
(٢) إشارة إلى الآية ٢١ من سورة الأنفال.
(٣) المائدة (٥) : ٥٤ ؛ الحديد (٥٧) : ٢١ ؛ الجمعة (٦٢) : ٤.
(٤) ب : محاكمتها.