احتاج إلى ما يعضّه ويولمه ليرعوي ويقصر عن مساويه ويثبته على ما فيه حظّه ورشده ، ولو أنّ ملكاً من الملوك قسّم في أهل مملكته قناطير من ذهب وفضّة ألم يكن سيعظم عندهم ويذهب له به الصوت ؟ فأين هذا من مطرة رواء ؟ (١) إذ يعمر به البلاد ويزيد في الغلّات أكثر من قناطير الذهب والفضّة في أقاليم الأرض كلّها .
أفلا ترى المطرة الواحدة ما أكبر قدرها وأعظم النعمة على الناس فيها وهم عنها ساهون ! وربّما عاقت عن أحدهم حاجة لاقدر لها فيذمر (٢) ويسخط إيثاراً للخسيس قدره على العظيم نفعه جهلاً بمحمود العاقبة وقلّة معرفة لعظيم الغناء والمنفعة فيها . تأمّل نزوله على الأرض والتدبير في ذلك ، فإنّه جعل ينحدر عليها من علوّ ليتفشّي ما غلظ وارتفع منها فيروّيه ، ولو كان إنّما يأتيها من بعض نواحيها لما علا على المواضع المشرفة منها و يقلّ ما يزرع في الأرض .
ألا ترى أنّ الّذي يزرع سيحاً (٣) أقلّ من ذلك فالأمطار هي الّتي تطبق الأرض ؛ وربّما تزرع هذه البراري الواسعة وسفوح الجبال وذراها (٤) فتغل الغلّة الكثيرة ، (٥) وبها يسقط عن الناس في كثير من البلدان مؤونة سياق الماء من موضع إلى موضع ، وما يجري في ذلك بينهم من التشاجر والتظالم حتّى يستأثر بالماء ذووا العزّة والقوّة ويحرمه الضعفاء .
ثمَّ إنّه حين قدّر أن ينحدر على الأرض انحداراً جعل ذلك قطراً شبيهاً بالرشّ ليغور في قطر الأرض فيرويها ، ولو كان يسكبه انسكاباً كان ينزل على وجه الأرض فلا يغور فيها ثمَّ كان يحطم الزرع القائمة إذا اندفق عليها فصار ينزل نزولاً رقيقاً (٦) فينبت الحبّ المزروع ، ويحيي الأرض والزرع القائم ، وفي نزوله أيضاً مصالح اُخرى فإنّه يليّن الأبدان ، ويجلو كدر الهواء فيرتفع الوباء الحادث من ذلك ، ويغسل ما يسقط على
________________________
(١) على زنة « حياء » : الماء الكثير المشبع .
(٢) في بعض النسخ « يتذمر ويسخط إيثاراً للخسيس قدره على العظيم نفعه جميلا محمود العاقبة وقلة معرفته لعظيم الغناء والمنفعة فيها » .
(٣) السيح : الماء الجاري على وجه الارض .
(٤) سفح الجبل : أصله وأسفله . عرضه ومضطجعه الذي ينصب الماء . وذرو الجبل : أعلاه .
(٥) وفي نسخة : فتقل الغلة الكثيرة .
(٦) وفي نسخة : فصار ينزل نزولا رفيقا .