مائة حبّة وأكثر وأقلّ ، وكان يجوز أن يكون الحبّة تأتي بمثلها فلمَ صارت تريع هذا الريع إلّا ليكون في الغلّة متّسع لما يرد في الأرض من البذر ، وما يتقوّت الزرّاع إلى إدراك زرعها المستقبل ؟ .
ألا ترى أنّ الملك لو أراد عمارة بلد من البلدان كان السبيل في ذلك أن يعطي أهله ما يبذرونه في أرضهم ، وما يقوتهم إلى إدراك زرعهم فانظر كيف تجد هذا المثال قد تقدّم في تدبير الحكيم فصار الزرع يريع هذا الريع ليفي بما يحتاج إليه للقوت والزراعة ، و كذلك الشجر والنبت والنخل يريع الريع الكثير فإنّك ترى الأصل الواحد حوله من فراخه أمراً عظيماً ، فلمَ كان كذلك إلّا ليكون فيه ما يقطعه الناس ويستعملونه في مآربهم وما يرد فيغرس في الأرض ؟ ولو كان الأصل منه يبقى منفرداً لا يفرخ ولا يريع لما أمكن أن يقطع منه شيء لعمل ولا لغرس ، ثمَّ كان إن أصابته آفة انقطع أصله فلم يكن منه خلف .
تأمّل نبات هذه الحبوب من العدس والماش والباقلا وما أشبه ذلك فإنّها تخرج في أوعية مثل الخرائط لتصونها وتحجبها من الآفات إلى أن تشدّ وتستحكم كما قد تكون المشيمة على الجنين لهذا المعنى بعينه ؛ فأمّا البُرّ وما أشبهه فإنّه يخرج مدرَّجاً في قشور صلاب على رؤوسها مثال الأسنّة من السنبل ليمنع الطير منه ليتوفّر على الزرّاع .
فإن قال قائل : أوليس قد ينال الطير من البرّ والحبوب ؟ قيل له : بلى على هذا قدّر الأمر فيها لأنّ الطير خلق من خلق الله وقد جعل الله تبارك وتعالى له فيما تخرج الأرض حظّاً ، ولكن حضنت الحبوب بهذه الحجب لئلّا يتمكّن الطير منها كلّ التمكّن فيعبث فيها ويفسد الفساد الفاحش فإنّ الطير لو صادف الحبّ بارزاً ليس عليه شيء يحول دونه لأكبّ عليه حتّى ينسفه أصلاً فكان يعرض من ذلك أن يبشم الطير فيموت ، ويخرج الزرّاع من زرعه صفراً فجعلت عليه هذه الوقايات لتصونه فينال الطائر منه شيئاً يسيراً يتقوّت به ، ويبقى أكثره للإنسان فإنّه أولى به إذ كان هو الّذي كدح فيه وشقي به ، وكان الّذي يحتاج إليه أكثر ممّا يحتاج إليه الطير .
تأمّل الحكمة في خلق
الشجر وأصناف النبات فإنّها لمّا كانت تحتاج إلى الغذاء