هو الّذي يهيّج الصبيّ إلى طلب الرضاع ، والطير اللّاقط على لقط الحبّ ، والسباع على ابتلاع اللّحم ؟ .
قال : لست أجد القلب يعلم شيئاً إلّا بالحواسّ ! قلت : أمّا إذ أبيت إلّا النزوع إلى الحواسّ فإنّا لنقبل نزوعك إليها بعد رفضك لها ، ونجيبك في الحواسّ حتّى يتقرّر عندك أنّها لا تعرف من سائر الأشياء إلّا الظاهر ممّا هو دون الربّ الأعلى سبحانه و تعالى ، فأمّا ما يخفى ولا يظهر فليست تعرفه ، وذلك أنّ خالق الحواسّ جعل لها قلباً احتجّ به على العباد ، وجعل للحواسّ الدلالات على الظاهر الّذي يستدلّ بها على الخالق سبحانه ، فنظرت العين إلى خلق متّصل بعضه ببعض فدلّت القلب على ما عاينت ، وتفكّر القلب حين دلّته العين على ما عاينت من ملكوت السماء وارتفاعها في الهواء بغير عمد يرى ، ولا دعائم تمسكها لا تؤخّر مرّة فتنكشط ، ولا تقدّم اُخرى فتزول ولا تهبط مرّة فتدنو ، ولا ترتفع اُخرى فتنأى ، (١) لا تتغيّر لطول الأمد ولا تخلق (٢) لاختلاف اللّيالي والأيّام ، ولا تتداعى منها ناحية ، ولا ينهار منها طرف ، مع ما عاينت من النجوم الجارية السبعة المختلفة بمسيرها لدوران الفلك ، وتنقّلها في البروج يوماً بعد يوم ، وشهراً بعد شهر وسنة بعد سنة ، منها السريع ، ومنها البطيىء ، ومنها المعتدل السير ، ثمَّ رجوعها واستقامتها ، وأخذها عرضاً وطولاً ، وخنوسها عند الشمس وهي مشرقة وظهورها إذا غربت ، وجري الشمس والقمر في البروج دائبين لا يتغيّران في أزمنتهما وأوقاتهما يعرف ذلك من يعرف بحساب موضوع وأمر معلوم بحكمة يعرف ذووا الألباب أنّها ليست من حكمة الإنس ، ولا تفتيش الأوهام ، ولا تقليب التفكّر ، فعرف القلب حين دلّته العين على ما عاينت أنَّ لذلك الخلق والتدبير والأمر العجيب صانعاً يمسك السماء المنطبقة أن تهوى إلى الأرض وأنَّ الّذي جعل الشمس والنجوم فيها خالق السماء ، ثمَّ نظرت العين إلى ما استقلّها من الأرض فدلّت القلب على ما عاينت فعرف القلب بعقله أنَّ ممسك الأرض الممتدّة (٣) أن تزول أو تهوى في الهواء ـ وهو يرى الريشة يرمى بها فتسقط مكانها وهي في الخفّة على
________________________
(١) أي فتبعد . وفي نسخة : فتنأى فلا ترى .
(٢) أي لا تبلى ولا ترثّ .
(٣) وفي نسخة : أن ممسك الارض الممهدة .