الباب الثالث عشر
عماذا يتولد العرق المديني؟ وبماذا يتحرزمن تولده؟
من أجل أن العرق المديني يتولد كثيراً في ذلك الصقع ، حتى صار يعرف باسمه ـ أعني بالمدينة ـ رأيت أن أصف التدبير الذي يتحرز به منه.
فأقول : إن تولد هذا العرق في اللحم كتولد الحيات وحب القرع وأصناف الدود في البطن ، وكتولد سائرالأشياء التي تدب على الأرض منها.
والعلة التي تشمل هذه الأشياء في تولدها العفونة المعتدلة ، وكما أن كل ما يعفن من جميع الأجسام يولد حيواناً ما ، كذلك العفن في اللحم يكون منه تولد هذا العرق وكل تعفن فإنما يكون باجتماع حرارة ورطوبة بأقساط معلومة.
وتلك الأقساط ليس يدركها البشر ، وليس يعلم مقاديرها إلا الباري ـ سبحانه وجل ثناؤه ـ على أنها ليست محصورة حصراً لا يلزم فيها زيادة ولا نقصان ، لكنها مختلفة واختلافها على قدر اختلاف الحيوان المتولد منها ، فإن الأقساط من الحرارة والرطوبة التي تتولد عنها الحيات في البطن ، خلاف الأقساط التي تتولد عنها حبات القرع ، وإن الأقساط التي يتولد عنها القمل والبراغيث والبق والجرجس ، وكذلك الأقساط التي يتولد عنها من الأرض الضب واليربوع والجرذان ، وخلاف الأقساط التي تتولد عنها الحيات والعقارب وبنات وردان.
وعلى هذا القياس تختلف هذه الحيوانات في البلدان على قدر اختلاف ترب البلدان ، فإن كل بلد قد تخصه تربة يتولد فيها من هذه الحيوانات خلاف الحيوانات التي تتولد في التربة الأخرى ، فالأرض الجصية يتولد فيها من الحيوانات خلاف ما يتولد في الأرض الرماية ، والأرض الحمراء التربة يتولد فيها حيوان غير الحيوانات التي تتولد في الأرض السوداء ، إذ كان التعفن في كل واحد من الترب يكون في مقادير مختلفة ، مخالفة للمقادير التي تكون في التربة التي يكون منها الحيوان من غير تلك التربة.
فلهذه العلة صار يتولد في كل بلد جنس من الحيوان مخالف للجنس الذي يتولد في البلد الآخر ، حتى صار بعض البلدان لا يتولد فيها العقرب البتة ، وبعضها لا يتولد فيها