إذا عرفت ذلك ، فنقول : إن القول بالتخيير في باب تعارض الأصول مما لا شاهد عليه ، لا من ناحية الدليل والكاشف ، ولا من ناحية المدلول والمنكشف.
أما انتفاء الشاهد من ناحية الدليل : فهو مما لا يكاد يخفى ، فان دليل اعتبار كل أصل من الأصول العملية إنما يقتضي جريانه عينا سواء عارضه أصل آخر أو لم يعارضه ، وليس في الأدلة ما يوجب التخيير في إجراء أحد الأصلين المتعارضين (١)
وأما انتفاء الشاهد من ناحية المدلول : فلان المجعول في باب الأصول العلمية ليس هو إلا الحكم بتطبيق العمل على مؤدى الأصل ، إما بقيد أنه الواقع ، وإما لا بقيد ذلك ـ على اختلاف المجعول في باب الأصول التنزيلية وغيرها ـ ولكن الحكم بذلك ليس على إطلاقه ، بل مع انحفاظ رتبة الحكم الظاهري باجتماع القيود الثلاثة المتقدمة ، وهي الجهل بالواقع ، وإمكان الحكم على المؤدى بأنه الواقع ، وعدم لزوم المخالفة العملية ، بالتفصيل المتقدم ، فعند اجتماع هذه القيود الثلاثة يصح جعل الحكم الظاهري بتطبيق العمل على المؤدى ، ومع انتفاء أحدها لا يكاد يمكن جعل ذلك ، وحيث إنه يلزم من جريان الأصول في أطراف العلم الاجمالي مخالفة عملية فلا يمكن جعلها جمعا ، وكون المجعول أحدها تخييرا وإن كان بمكان من الامكان ، إلا أنه لا دليل عليه ، لا من ناحية أدلة الأصول ، ولا من ناحية المجعول فيها (٢).
__________________
١ ـ أقول : يكفي دليلا ملاحظة أجمع بين إطلاق دليل الحلية لكل واحد من الفردين على أي حال ، وبين حكم العقل بعدم إمكان الجمع بين الشكين في هذا الحكم ، فيدور الامر بين تخصيص الفردين ، أو تقيد كل واحد بحال عدم ارتكاب الآخر ، ومعلوم : أن التقيد المزبور أولى من التخصيص ، وذلك أيضا هو الوجه في تقييد إطلاق كل واحد من الخطابين في باب المتزاحمين ، ولا يرى بينهما فرقا بين المقامين ، إذ في الصورتين يستكشف من الاطلاق دخول كل واحد في حال دون حال ، فالمستكشف حكم ملازم مع التخيير واقعا والتعبد بإطلاق الكاشف حكم ظاهري. وتوهم الفرق بين التقريب في المثال وباب المتزاحمين بالواقعية والظاهرية في غير محله.
٢ ـ أقول : فيه ما فيه! ولا يكفيه من التوجيه ، إذ الدليل عليه كالنار على المنار ، ولا يبطله إلا تعلق