ففي كل تلك المواقف أعلن فيها انّ علياً ولي الأمر بعده ، وكان يشدّد على انّه الوصي والخليفة في اُمته ، كانت وتيرة الخلاف تتصاعد ، وجرت ملابسات ومعاكسات لما أمر به ، حتى أنكرت قريش وصيته ، وأصرّت عناداً على مخالفته في خلافته ، فقالت : مات ولم يوص ، ورووا أحاديث عن عائشة في ذلك ، وردّ عليها ابن عباس واُم سلمة وغيرهما ، كما تقدم في بعض النصوص التي ذكرناها (١).
ومن الغباء فضلاً عن الجفاء أن يزعم إنسان مسلم انّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم الذي أعلن دعوته بمكة ، وواصل سعيه في المدينة ، وقاسى في سبيل نجاحها من الأذى ما قاساه ، فأسس حكومته الرشيدة ، وبلّغ شريعة الإسلام تامة غير منقوصة ، ولم يترك صغيرة ولا كبيرة تصلح اُمته إلّا بيّنها لهم في سائر شؤون حياتهم ، حتى المرء في مخدعه مع حليلته ، وفي بيت الخلاء لقضاء حاجته ، بما ينبغي وما لا ينبغي من سنن وآداب ، فضلاً عن بيان الواجب والحرام وبقية الأحكام.
كيف يعقل انّه يترك اُمته هملاً على غير نهج واضح ، وسبيل لائح في أمر من يتولى قيادتها من بعده ؛ ليكفل لها النجاة من الهلكة والهداية من الضلالة ما دامت سائرة على سنته ، وآخذه بشريعته ؟ وهو القائل : « قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها بعدي إلّا هالك » (٢).
ولكنّها السياسة الرعناء مسخت العقول بطخية عمياء ، فهي لا تنظر بعين البصيرة إلى تلك الأدلّة الكثيرة التي حذّرت الاُمة من العواقب الوخيمة لمخالفتها الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في أوامره ونواهيه ، وتناست ما روته عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم : « لا ترجعوا بعدي كفاراً ... » (٣).
_____________________
١ ـ راجع كتاب علي إمام البررة ٣ : ٣٤٧ ـ ٣٦١.
٢ ـ المستدرك على الصحيحين ١ : ١٧٥.
٣ ـ شرح النووي على صحيح مسلم باب بيان معنى قول النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : ( لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض ) ٣ : ٥٥.