وأظنّ أنّ مراده من قوله « بصفة يوصف بها خلقه » هي الصفات الخبرية ، كاليد ، والعين ، والرجل ، وما أشبهها ، مما أصرّ أهل الحديث والحشوية على توصيفه سبحانه بها ، بالمعنى اللغوي الملازم للتجسيم والتشبيه.
هاتان قاعدتا مذهب الجهم ، وأمّا غيرهما ممّا نسب إليه ، فمشكوك جدّاً ، وبما أنّه استدلّ لمذهبه في مورد عدم الخلود في الجنّة والنار بما عرفت من الآية ، فنرجع إلى توضيح الآية فنقول :
جعل الجهم الاستثناء في الآية دليلاً على عدم الخلود.
يلاحظ عليه : أنّه استدلّ بالآية على عدم الخلود بوجهين :
الأوّل : تحديد الخلود بمدّة دوام السماوات والأرض وهما غير مؤبّدتين بالضّرورة قال سبحانه : ( مَا خَلَقْنَا السَّمواتِ وَالأرْضَ ومَا بَيْنَهُمَا إلاّ بِالحقِّ وأَجَلٌ مُسَمَّى ) ( الأحقاف / ٣ ) وقال تعالى : ( وَالسَّمواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ) ( الزمر / ٦٧ ).
الثاني : الاستثناء الوارد في الآية من الخلود بقوله : ( إلاّ ما شاء ربّك ) في كلا الموردين : نعيم الجنّة وعذاب الجحيم.
أمّا الأوّل : فالإجابة عنه واضحة ، لأنّ المراد من السماوات والأرض فيها ، ليس سماء الدنيا وأرضها ، بل سماء الآخرة وأرضها ، والاُوليتان فانيتان ، والاُخريتان باقيتان والله سبحانه يذكر للنظام الآخر أرضاً وسماءً غير ما في الدنيا. قال تعالى : ( يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمواتُ وَبَرَزُوا للّهِ الوَاحِدِ القَهّارِ ) ( إبراهيم / ٤٨ ) وقال حاكياً عن أهل الجنّة : ( وَقَالُوا الحَمْدُ للّهِ الّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وأَوْرَثنَا الأرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ) ( الزمر / ٧٤ ) فللآخرة سماء وأرض ، كما أنّ فيها جنّة وناراً ولهما أهل ، وتحديد بقاء الجنّة والنار وأهلها بمدّة دوام السماوات والأرض راجع إلى سماء الآخرة وأرضها وهما مؤبّدتان غير فانيتين ، وإنّما تفنى سماء الدنيا وأرضها ، وأمّا السماوات الّتي تظلّل الجنّة مثلاً والأرض الّتي تقلّها وقد أشرقت بنور ربّها فهما ثابتتان غير زائلتين.