فأتاه رجل يقال له عثمان أخو السمري فقال : يا أبا عثمان! سمعت والله اليوم بالكفر فقال : لا تعجل بالكفر ، وما سمعت؟ قال : سمعت هاشماً الأوقصي يقول : إنّ ( تَبَّتْ يدا أَبِى لَهَب ) وقوله : ( ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ) و: ( سَأُصْلِيهِ سَقَر ) إنّ هذا ليس في اُمّ الكتاب ، والله تعالى يقول : ( حم * وَالكِتَابِ المُبِين * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وإِنَّهُ فِي أُمِ الكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌ حَكِيمٌ ) فما الكفر إلاّ هذا يا أبا عثمان. فسكت عمرو هنيئة ، ثمّ أقبل عليّ فقال : والله لو كان القول كما يقول ، ما كان على أبي لهب من لوم ، ولا على الوحيد من لوم. قال : يقول عثمان ذاك؟ هذا والله الدين يا أبا عثمان. قال معاذ : فدخل بالاسلام وخرج بالكفر » (١).
ثمّ ينقل عن معاذ أنّه نقل مقالة عمرو لوكيع بن الجرّاح فقال : « من قال هذا القول استتيب ، فإن تاب وإلاّ ضربت عنقه ».
يلاحظ عليه : أنّ تأريخ بغداد عيبة الأعاجيب والموضوعات. إنّه يروي في بداية ترجمة « عمرو بن عبيد » قصصاً في زهده وتمرّده على الطّواغيت ، كأبي جعفر المنصور العبّاسي على وجه يليق أنّ تنسب إلى الأنبياء والأولياء ، ولا يلبث فيأتي بهذه الأعاجيب الّتي لا يليق أنّ ينسب إلى مسلم عادي ، فضلاً عن شيخ الكلام في عصره. لأنّ المعتزلة وفي مقدّمهم الشيخان ، اعترفوا بأنّ علمه سبحانه بالأشياء والحوادث أزلي لا حادث (٢) ومعه كيف يمكن لمثل عمرو شيخ المنهج أنّ ينكر علمه سبحانه بما يصدر من الوليد ابن المغيرة ، أو أبي لهب من الأفعال والأقوال؟ وكيف يمكن لمسلم أنّ ينكر كون القرآن موجوداً في الكتاب ( لدينا لعليّ حكيم ) مع وروده فيه على وجه الصّراحة. كلّ ذلك يعرب عن أنّ ما نسب إليه من السفاسف أخيراً ، وليد العداء والبغضاء. فالمسلم الّذي يأخذ عقائده وآراءه من الكتاب والسنّة الصّحيحة والعقل السليم ، يعترف بأنّ كلّ
__________________
١ ـ تاريخ بغداد : ج ١٢ ص ١٧٠ ـ ١٧٢.
٢ ـ قال القاضي عبد الجبار ( م ٤١٥ ) : فاعلم أنّ تلك الصفة التي يقع بها الخلاف والوفاق ( عالم ، لا عالم ) يستحقها لذاته وهذه الصفات الأربع التي هي كونه قادراً عالماً حياً موجوداً لما هو عليه في ذاته ... إلى آخر ما ذكر في شرح الاُصول الخمسة : ص ١٢٩.